القرائن القضائية في الاثبات في القانون الجزائري

0

: القرائن القضائية

    لقد سبق و أن قمنا بتعريف القرائن في الفصل السابق بصورة عامة و درسنا القرائن القانونية باعتبارها دليل من أدلة الإثبات التي تقيد سلطة القاضي في تقديرها .

    و لما كانت القرائن نوعان قضائية و قانونية فانه لا بد من التقسيم بينهما و دراسة كل واحدة على حدا على اعتبار أن القرينة القضائية كدليل إثبات في المواد المدنية تخضع للسلطة التقديرية للقاضي و السؤال الذي يطرح في هذا المجال ما هي القرائن القضائية ؟ و كيف يمكن اعتبارها دليلا يخضع لسلطة القاضي من حيث تقديره و من حيث تقدير عناصره؟.

        القرينة القضائية هي كل قرينة لم يقررها القانون و يترك لتقدير القاضي أمر استنباطها بحيث يختار القاضي القواعد الثابتة و التي تسمى العلامات و يقوم فيها بعد ذلك باستخلاص الوقائع المراد إثباتها من الواقعة الثابتة و تعرف أيضا على أنها النتائج التي يستخلصها القاضي من واقعة معلومة لمعرفة واقعة مجهولة حسب نص المادة 1349 من القانون المدني الفرنسي .                                  

       و لقد نصت المادة 1353 من نفس القانون على :

«  Les présomptions  ne sont point établies par la loi , sont abandonnées aux lumières et à la prudence du magistrat, qui ne doit admettre que des présomptions graves , précises et concordantes et dans les cas seulement où la loi admet les preuves testimoniales à mois que l’acte ne soit attaqué pour cause de fraude ou de dol. »

بذا يتبين أن القرينة القضائية هي دليل غير مباشر إذ لا يقع الإثبات فيها على الواقعة ذاتها بوصفها مصدرا للحق بل يقع على واقعة أخرى قريبة منها و متصلة بها إذا ثبتت أمكن للقاضي أن يستنتج منها الواقعة المراد إثباتها ، و عناصر القرينة القضائية هي :                                                            

أ. عنصر مادي : و يقصد به الوقائع المادية المقر بها من قبل الطرفين كأن تكون قرابة أو صداقة .

ب.  عنصر معنوي : و يقصد به الاستنباط الذي يقوم به القاضي في تفسير الواقعة.

 و حالات الإثبات بقرائن قضائية محددة قانونا بنص المادة 340 من القانون المدني ،  و لقد حدد المشرع

حالات قبول القرينة القضائية  لما رخص الإثبات  بها في كل ما يجوز إثباته بالبينة مما جعل سلطة القاضي في مجال القرائن القضائية محدودة نوعا ما.                                                                





أولا : سلطة القاضي في تقدير العنصر المادي

       انطلاقا مما سبق يتبين أن القرائن القضائية تقوم على العنصر المادي المتمثل في  الدلائل والأمارات المقر بها أحد الأطراف أو كلاهما والتي يعتبرها القاضي عنصرا أساسيا يبني عليه استنباطه  أما عمله الذهني لمعرفة دلائل أو وقائع أو أمرات غير مصرح بها أو غير معلومة بملف الدعوى و هذا ما يعرف بالعنصر المعنوي  ، وانطلاقا من ذلك فان القاضي له السلطة المطلقة في اعتماد الوقائع التي يتخذها أساسا لاستنباطه دون التقيد بما اختاره الخصوم من وقائع يريدون جعلها أساسا لاستنباط ما يدعونه واختيار قاضي هنا لتلك الوقائع يكون بكل حرية " فله اختيار وقائع ثابتة أمامه في الدعوى سواء من أوراق الملف أو خارج أوراق الدعوى وقد تختار من الوقائع التي كانت موضوع نقاش بين الخصوم" (1) والمهم أن تكون هذه الوقائع ذات صلة بالوقائع المراد إثباتها بحيث تسمح باستنباط الثانية من الأولى.

         والقرينة القضائية من الأدلة التي لم يحدد القانون حجيتها فهي مطلق تقدير القاضي نقض 04/11/1975 طعن رقم 372 س 30 ق  ،وجاء أيضا أن استنباط القرائن القضائية من سلطة قاضي الموضوع يجوز الاعتماد على ما يستخلصه من تحقيقات أجريت في غيبة الخصوم أو من محضر استدلالات أو من شهادة شاهد لم يؤدي اليمين بلا رقابة عليه متى كان استنباطه سائغا نقض 05/05/1972 طعن رقم 811 س 42 ق (2) .                                                                      

       والملاحظ في هذا المجال أن القاضي يخرج عن مبدأ و لا يحكم  إلا بما عرض عليه من أدلة في الدعوى ، ولقد ورد في الاجتهاد انه يجوز للقاضي أن يستنبط القرائن من التحقيقات التي أجريت حتى في غيبة الخصوم أو سبق تقديمها في دعوى أخرى أو تحقيق جنائي أو صدر فيها قرار من النيابة بان لا وجه لإقامة الدعوى أو على محضر تحقيق أجرته الشرطة أو على دفاتر تجارية غير منتظمة وقد ذهب الرأي في الفقه الفرنسي بان للقاضي في الأخذ بالقرائن القضائية أن يعود حتى إلى علمه الشخصي ببعض الوقائع ،وذلك ما يتنافى مع مبدأ الإثبات المدني الذي ينص  بان لا يقضي القاضي حسب علمه وفيما لم يقدم له فيه دليل.                                                                                                           





 


1.  الدكتور عبد الرزاق السنهوري : المرجع السابق صفحة 330

2. الدكتور أنور طلبة : المرجع السابق صفحة496 /515  



ثانيا : تقدير القاضي ما للعنصر المادي  من دلائل


 إن للقاضي سلطة في تقدير ما تحمله الواقعة الثابتة التي اختارها من دلالة لكي يستخرج منها الدليل على ثبوت الواقعة التي يراد إثباتها ، وما دام القاضي له سلطة تقديرية واسعة في مجال القرائن القضائية فانه بالضرورة له سلطة في اختيار أية واقعة كما سبق ليجعلها أساسا لاستخراج قرائن وبذلك قد تكون قرينة  أو عدة قرائن في نفس المجال وله السلطة في اقتناعه بقرينة واحدة ورفض قرائن  أكثر عددا لا لشيء إلا لإعمال سلطته التقديرية وتمحيصه للقرائن الضعيفة من القوية والمنتجة وفي هذا المجال يقول الأستاذ بواني "  ان قرينة واحدة يمكن ان تكون قاطعة بينما في بعض الحالات لا تتوافر ثلاث أو أربع قرائن على أي قوة في الإثبات " (1).                                                                                          

         ويكفي القاضي أن يبني حكمه على قرينة واحدة متى كانت قوية ومنتجة في الإثبات ويعتمد هنا على خبراته السابقة وفطنته وذكائه لأن هذه العملية تقوم على أساس بذل مجهود ذهني في تكوين الاعتقاد واستخراج وقائع مجهولة من وقائع معلومة أساسا لدى الأطراف لذا يبقى دائما استنباط القاضي يقوم على الاحتمال فعلى القاضي إبداء الكثير من الحيطة والحذر في هذا المجال .                                        

        والسؤال الذي يطرح في هذا المجال ما هي الحالات التي يجوز فيها الإثبات بالقرائن القضائية ؟

        لقد أجابت على هذا السؤال المادة : 340 من القانون المدني " لا يجوز الإثبات بهذه القرائن إلا في الأحوال التي يجيز فيها القانون الإثبات بالبينة ".

         يتبين من ذلك أن  المشرع قد أجاز للقاضي استنباط كل قرينة لم يقررها القانون ،  وذلك في نطاق ما يجوز إثباته بالشهادة وبذلك يتضح وجود تساوي بين القرائن القضائية والشهادة وتضييق المجال في الإثبات بها والسبب في ذلك أن الإثبات بالقرائن القضائية لا يخلو من الخطر (2) .                           











 


1- الدكتور مسعود  زبدة  :   المرجع السابق الصفحة 69.

2. الدكتور عباس العبودي المرجع السابق الصفحة 284 - 285- .286



           و أنه كلما اعتمد القضاة القرائن القضائية في غير موضعها التي يجيزها القانون ، فإنهم بذلك يخضعون للرقابة من المحكمة العليا لأن المسالة أصبحت مسألة قانونية حينما جعل  المشرع الجزائري القرينة في منزلة الشهادة وهو لم يحدد مجال الإثبات بالقرائن القضائية وحدد مجال الإثبات بشهادة الشهود .                                                                                                                     

         ولقد استحدث رجال القانون صورا من القرائن للإثبات كما جاء على لسان الدكتور سليمان مرقس التي لم يرد فيها نص في القانون كالتسجيل المغنطيسي للصوت والتصوير الشمسي وتحليل الدم ، حتى لا يتعارض ذلك مع النظام العام ، وأخيرا نقول أن من حق القضاة أن يقبلوا أو يرفضوا القرائن التي يعتمد عليها الخصوم في جميع القضايا التي يكون الإثبات فيها بالشهادة جائزا كما يتمتعون بسلطة تقدير خطورة القرائن وعلاقتها بالنزاع أو عدم علاقتها وكونها منتجة أو غير منتجة في النزاع .                  

        كما أن القاضي غير ملزم أن يبين في الحكم أسباب اقتناعه أو تفضيله قرينة على أخرى، مادامت القرينة التي اعتبرها تؤدي إلى ذلك دليلا على ثبوت الواقعة في العقل والمنطق (1) ولكن إذا استمد القاضي القرينة من واقعة محتملة أو غير مقطوع بها أو واقعة لا وجود لها أو أن استخلاصه غير مقبول عقلا ويتعارض مع الثابت في أوراق الدعوى فالحكم هنا يكون معيبا ويستوجب نقضه  ويبقى الشيء المميز للقرائن القضائية عن غيرها من أدلة الإثبات أنها بعيدة عن مخاطر التزوير مثل الكتابة وبعيدة عن التحيز مثل الشهادات وهذا لأن أساسها الوقائع التي لا تكذب ويقال أن هذه الأدلة نفسها قد يساء فهمها من طرف القاضي وان النتيجة التي يستنتجها منها قد تكون مغلوطة إلا أن العيب هنا ليس في الدليل نفسه إنما هو في تفكير القاضي  ولقد جاء في إحدى القرارات أن استخلاص القرائن والأخذ بقرينة دون غيرها تدخل في سلطة محكمة الموضوع التقديرية بغير معقب من محكمة النقض متى كان استخلاصها سائغا نقض في 08/01/1975 طعن رقم 128 س 40 ق (2) ولقد ورد في الاجتهاد القضائي  أن تقدير القرائن مما تستقل به محكمة الموضوع ولها عند تقدير الدليل أن تأخذ بنتيجة دون أخرى ولو كانت محتملة        







 

1. المشرع الفرنسي نص في المادة 1353 من القانون المدني الذي حث القاضي على الأخذ بالقرائن الدقيقة والمطابقة لما هو يتعلق بالوقائع .

2. الدكتور أنور طلبة المرجع السابق الصفحة 516/517.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظه © القانون والتعليم

تصميم الورشه