حصانة الرؤساء من المسؤولية

0
حصانة الرؤساء من المسؤولية

لا توجد اتفاقية دولية تنظم موضوع حصانة الرؤساء والحكام من المسؤولية، غير ان هناك عرف دولي يمنح الرؤساء اثناء قيامهم بوظائفهم حصانه من المسؤولية وتوسع الامر ليشمل مسؤولين أخرين يمثلون الدولة التي يتبعونها احتراماً لسيادة تلك الدولة. وتطبيقاً لذلك رفضت محكمة العدل الدولية رفع الحصانة عن وزير الخارجية الكونغولي في قرارها في القضية المرفوعة من الكونغو ضد بلجيكا بتاريخ 14/2/2002م.
وكذلك رفضت فرنسا وبلجيكا الطلبات التي تقدمت بها المنظمات الحقوقية عام 1998م لمحاكمة لوران كابلا رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية اثناء زيارته لتلك الدولتين. ([1])
غير ان الدفع بالحصانة وان كان يمكن الاحتجاج به في نطاق القانون الجنائي الداخلي حتى الان، فان الوضع بدأ يختلف عندما يتعلق بجريمة دولية خاضعة لاحكام القانون الدولي الجنائي، فقد بات من المستقر انه لا يعتد بالحصانة ولا يمكن ان تكون وسيلة للأفلات من العقاب.
وفي ذلك يذكر الدكتور ((شريف بسيوني)): إن الحصانة التي تؤدي الى افلات الشخص من المساءلة القانونية هو نتاج للتعارض بين السياسات والممارسات المادية والعملية التي تسعى الدول من خلالها الوصول الى تحقيق مصالحها الخاصة، وبين متطلبات العدالة الدولية التي تعني اقرار المسؤولية الجنائية والتي تهدف الى تحقيق غرض عقابي ووقائي في ذات الوقت – ويضيف الدكتور – ان الانجاز الحقيقي يتمثل في تجاوز الحصانة التي كانت تشكل ستاراً حديداً مفروضاً حول فكرة العدالة الجنائية الدولية. ([2])
وقد تم التأكيد على مبدأ عدم الاعتداء بالحصانة كسبب للافلات من المسائله عن الجرائم الدولية في مختلف المواثيق الدولية. ولعل المبادئ التي اسستها محكمة نورمبرغ كانت الاولى في هذا الصدد.


المطلب الاول
تقرير مبدأ عدم الاعتداء بالحصانة

  نصت المادة السابعة من النظام الاساس لمحكمة نورمبرغ (( ان المركز الرسمي للمتهمين سواء بصفة رؤساء دول أو بصفة موظفين كبار لن يؤخذ بنظر الاعتبار كعذر او كسبب مخفف للعقوبة)).([3])
الاان هذا الاتجاه لم يكن مجمعاً عليه لدى الفقهاء فقد ذهب بعض الكتاب الى ضرورة عدم محاكمة رؤساء الدول بواسطة محكمة اجنبية وانما يجب ان يتقرر مصيرهم بمقتضى قرار ذي صفة سياسية يتخذ باتفاق الدول المنتصرة. الا ان أخرون قد عارضوا هذا الاتجاه ومنهم البرفسور  Sh.Glueck  الاستاذ في جامعة هارفرد  الذي ذهب الى ان هذا الرأي سيؤدي الى نتائج وخيمة جداً، كما انه يتعارض مع روح الامم المتحدة التي اعتبرت رؤساء دول المحور خاضعين لنفس الاعتبارات التي يخضع لها رعاياهم السابقين أي لعدالة المحكمة الدولية.([4])
وفي ذلك صرح جاكسون المدعي العام الامريكي في المحكمة بان من رأية يجب ان يستخدم القانون ليس في معاقبة سلوك الناس البسطاء فقط وانما سلوك الملوك ايضاً.
وقد تم تأكيد هذا المبدأ في ميثاق المحكمة وكذلك في الاحكام الصادرة منها، والتي صاغتها فيما بعد لجنة القانون الدولي ضمن سبعة مبادئ هي:
1- أي شخص يرتكب فعلاً يشكل جريمة وفقاً للقانون الدولي يكون مسؤولاً عنها ومعرضاً للعقاب عليها.
2- لا يعفي عدم وجود عقوبة، في القانون الداخلي عن الفعل الذي يعد جريمة وفقاً للقانون الدولي، الشخص الذي ارتكب الفعل من المسؤولية طبقاً للقانون الدولي.
3- لا يعفى الشخص الذي ارتكب جريمة وفقاً للقانون الدولي كونه قد تصرف بوصفه رئيساً للدولة أو مسؤولاً حكومياً، من المسؤولية بالتطبيق للقانون الدولي.
4- لا يعفى الشخص الذي ارتكب الفعل بناء على امر من حكومته أو رئيسه الاعلى من المسؤولية وفقاً للقانون الدولي، بشرط وجود خيار معنوي كان متاحاً له.
5- لكل شخص متهم بجريمة وفقاً للقانون الدولي الحق في محاكمة عادلة بخصوص الوقائع والقانون.
6- يعد من الجرائم المعاقب عليها الجرائم التالية:
     أ- الجرائم ضد السلام
    ب- جرائم الحرب.
    ج- الجرائم ضد الانسانية.
7- يعتبر جريمة وفقاً للقانون الدولي الاشتراك في ارتكاب جريمة ضد السلام أو جريمة حرب أو جريمة ضد الانسانية.([5])

ومن الجدير بالذكر ان لجنة القانون الدولي عندما صاغت مبدأ عدم الاعتداء بالحصانة كسبب يمنع من المسائلة عن الجرائم الدولية ضمن مبادئ نورمبرغ على النحو السابق أثارت بعض الجدل، فاذا كان وصف رئيس الدولة واضح الدلالة، فان بعض الجدل، فان مصطلح المسؤول الحكومي يثير التسأول حول المقصود فيه، فهل المقصود به عضو الحكومة حصراً ام عضواً سابقاً في الحكومة، ام هو موظف من رتبة عالية جداً في احدى السلطات التشريعية أو التنفيذية أو القضائية.([6])
ذهب الدكتور محي الدين عوض انه يعتبر حاكما كل شخص ليس له رئيس اعلى في سلمه الدرجات، بينما يذهب رأي اخر الى ان مبدأ عدم التذرع بالحصانة يجب ان يؤخذ على اطلاقه، فلا يضيف أو يقيد بشخص رئيس الدولة والحاكم الذي ليس له رئيس اعلى منه في سلم الدرجات، لان هذا القول يسمح بالتهرب من المسؤولية عن الجرائم الدولية. ([7])
وقد درجت المحاكم الجنائية الدولية في كل من يوغسلافيا وراوندا على تقرير هذا المبدأ في النظام الاساسي لكل منها، فقد ورد في المادة (28) من النظام الاساسي لمحكمة يوغسلافيا عام 1993م على انه ( لا يعفى المنصب الرسمي للمتهم سواء اكان رئيس دولة أو حكومة أو مسؤولاً حكومياً، هذا الشخص من المسؤولية الجنائية أو يخفف من العقوبة ). وبالفعل تمت مسائلة الرئيس اليوغسلافي السابق ( سلوبدان ميلو سوفيتش ) امام هذه المحكمة. كما اكدت محكمة راوندا لعام 1994م المبدأ ذاته في المادة (27) من تظامها الاساسي.
ومن الجدير بالذكر ان هاتين المحكمتين قد تضمنتا مفاهيم واضحة لمسؤولية القادة عن وحشية الجنود تحت امرتهم، وقد ضربت محكمة يوغسلافيا الامثلة للقضاء الوطني في كيفية التعمل مع المتهمين بارتكاب جرائم القتل الجماعي والتطهير العرقي، وعدم تركهم يظهرون بمظهر (( الابطال القوميين )). حتى بدأت المحاكم الصربية والكرواتية اعتباراً من عام 2005م بمحاكمة مواطنيها الضالعين في جرائم حرب. ([8]) 
واذا لم يتسنى للمحكمة الدوليه الجنائية تطبيق هذه المبادئ فقد تم تطبيقها في وقائع تاريخيه عده منها:

 1- محاكمة الرئيس " دونتز " :
عقب هزيمة ألمانيا ودول المحور في الحرب العالمية الثانية وانتحار المستشار " هتلر " تولي الأدميرال " دونتز " رئاسة الدول الألمانية في هذه الظروف ، وقد تم القبض عليه مع مجموعة من القادة الألمان لمحاكمتهم .
وفي 8 أغسطس عام 1945 عُقدت في لندن اتفاقية محاكمة كبار مُجرمي الحرب في أوروبا . وقد قررت هذه الاتفاقية إقامة محكمة عسكرية دولية لمحاكمة كبار مجرمي الحرب الذين ليس لجرائمهم محل جغرافي معين سواء لاتهامهم فيما بصفتهم الشخصية أو بصفتهم أعضاء في منظمات أو هيئات أو بالصفتين معا . وعلى إثر ذلك شكلت محكمتان لمحاكمة كبار مجرمي الحرب إحداهما في مدينة نورمبرج الألمانية والأخرى في مدينة طوكيو اليابانية ([9]) .
وقد جاء تحديد اختصاص المحكمة بموجب نص المادة 6 من ميثاق المحكمة حيث نصت هذه المادة على أن المحكمة تختص بمحاكمة وعقاب كل الأشخاص الذين ارتكبوا بصفتهم الشخصية أو بصفتهم أعضاء في منظمة تعمل لحساب دول المحور فعلا يدخل في نطاق إحدى الجرائم التالية :
1-  الجرائم ضد السلام ..
2-  جرائم الحرب ..
3-  الجرائم ضد الإنسانية ..

ويعتبر المدبرون والمنظمون والمحرضون والشركاء الذين ساهموا في وضع أو تنفيذ مخطط أو مؤامرة لارتكاب أحدٍ الأفعال التي تدخل في الجرائم السابقة مسئولين عن كل فعل تم ارتكابه تنفيذا لهذا المخطط ضد أي شخص ([10]) .
وقد أكدت لائحة محكمة نورمبرج مبدأ مسؤولية رئيس الدولة وكبار موظفي الحكومة عن الجرائم الدولية ، فقررت في المادة السابعة " أن المركز الرسمي للمتهمين سواءً كانت جرائم حرب أو جرائم ضد السلام على أساس أنه ليس من المنطق أو العدل أن يعاقب المرءوسون الذين ينفذون أوامر غير مشروعية يصدرها رئيس الدولة أو أعوانه ويعفي الرئيس الذي دبر وأمر بارتكاب هذه الجرائم  ([11]) .
وقد رأت اللجنة القانونية المُشكلة لصياغة مبادئ نورمبرج الأخذ بمبدأ مسئولية رئيس الدولة ونصت على ذلك في المبدأ الثالث منها بقولها " إن مقترف الجريمة يُسأل عنها ولو كان وقت ارتكابها يتصرف بوصفه رئيساً للدولة أو حاكما " .
وقد تمت محاكمة الرئيس الألماني " دونتز " أمام محكمة نورمبرج وحكمت عليه المحكمة بعقوبة السجن لارتكابه جرائم حرب  ([12]) ، وقررت استبعاد حصانة رئيس الدولة وعد الأخذ بالدفع الذي قد يبديه استناداً إلى تلك الحصانة بقولها " إن قواعد القانون الدولي التي تحمي ممثلي الدولة في ظروف معينة لا يمكن أن تنطبق على الأفعال التي تعتبر جناية في القانون الدولي ، ولا يستطيع مرتكبو هذ الأفعال التمسك بصفتهم الرسمية لتجنب المحاكمة والعقاب . فمن يخالف قوانين الحرب لا يستطيع في سبيل تبرير هذه المخالفة أن يحتج بتفويضه من جانب الدولة لأن الدولة في الوقت الذي تمنحه فيه مثل هذا التفويض تكون متجاوزة حدود السلطات المعترف بها من القانون الدولي " ([13])

2- محاكمة الرئيس " ميلوسوفيتش "
أصدر مجلس الأمن في أكتوبر عام 1992 القرار رقم 780 بإنشاء لجنة خبراء خاصة عنيت بالتحقيق وجمع الأدلة حول المخالفات الجسيمة لمعاهدات جنيف والانتهاكات الأخرى للقانون الدولي الإنساني في الصراع الدائر آنذاك بيوغسلافيا السابقة . وبمطالعة تاريخ اللجنة وأعمالها ، يتبين بوضوح أنها كانت مفعمة بتأثير إنساني وقانوني ، حيث طلب مجلس الأمن من الأمين العام وبصفة عاجلة تشكيل لجنة محايدة من الخبراء ، تكون مهمتها تقييم وتحليل المعلومات المقدمة على أثر القرار 771 لسنة 1992، وللجنة الخبراء تنفيذاً للقرار 771 لسنة 1992 جمع معلومات أخرى من خلال تحرياتها أو غيرها من الأشخاص عن الانتهاكات الجسيمة لمعاهدات جنيف والانتهاكات الأخرى للقانون الدولي الإنساني والتي ارتكبت في أراضي يوغسلافيا السابقة " ([14]) .
وبنهاية عمل اللجنة ، توافرت أدلة دامغة على أن الجرائم التي ارتكبت ما كان يتسنى لها أن تتم بدون ضلوع بعض القيادات السياسة والعسكرية فيها ، وعلى رأسهم الرئيس " سلوبودان ميلوسوفيتش " و " كاراديتش " رئيس جمهورية بوسنا الصربية ، و " مالديتش " قائد القوات الصربية في البوسنة ، الأمر الذي بدت من خلاله أعمال اللجنة وكأنها تهديد للمفاوضات السياسية حيث إنه من الممكن تجاهل الاتهامات الواردة بالتقارير الإعلامية حيال مسئولية مرتكبي جرائم " التطهير العرقي " و " الاغتصاب المنظم " وغيرهما من الانتهاكات المنظمة للقانون الإنساني الدولي ، إلا أن أن إقامة الدليل على تلك الاتهامات كان هو الخطر السياسي الحقيقي ، مما أدى إلى ضرورة انهاء أعمال تلك اللجنة مع محاولة تفادي النتائج .
وبعد عامين من التحقيقات وجمع الأدلة ، أعدت اللجنة تقريراً ختامياً بلغ عدد صفحاته ثلاثة آلاف وخمسمائة ورقة ، أرفق بها خمسة وستون ألف مستند ، بالإضافة إلى ثلاثمائة ساعة تصوير فيديو ، وثلاثة آلاف صورة فوتوغرافية ، مما جعله الأطوال في تاريخ مجلس الأمن .
ووفقاً لتقرير اللجنة ، فإنه ضمن قائمة اتهامات مطولة ، فإن " ميلوسوفيتش " منسوب إليه أنه أمر بارتكاب القتل والتعذيب والنقل الجبري للسكان كجرائم ضد الإنسانية وبالمخالفة لقوانين وأعراف الحرب ، وقد تم ارتكاب الجرائم السابقة في إطار سياسة مدروسة بدقة وموضوعية سلفاً قام بالتخطيط لها والعمل على تنفيذها الرئيس المذكور فيما يُطلق عليه سياسة التطهير العرقي . فضلا عن الاغتصاب المنظم في جميع أنحاء البوسنة وكرواتيا خلال فترة زمنية تجاوزت العام ونصف العام في كرواتيا بينما قاربت على العامين ونصف العام في البوسنة ، في أكثر من ثلاثة آلاف مدينة وقرية . وقد تم تسليم كل هذه المعلومات والأدلة إلى المدعي العام للمحاكمة في أغسطس 1994 .

وبناءً على ذلك التقرير ، وعملاً بتوصية لجنة الخبراء ، أصدر مجلس الأمن في 22 فبراير 1993 قراراه رقم 808 بإنشاء محكمة جنائية دولية لمحاكمة الأشخاص المسؤولين عن الانتهاكات الجسيمة للقانون الإنساني الدولي التي ارتكبت في أراضي يوغوسلافيا السابقة منذ عام 1991 ، وقد تطلب القرار 808 أن يُعِد الأمين العام تقريراً حول إنشاء المحكمة الجنائية الدولية الخاصة خلال ستين يوماً . وتنفيذاً لذلك القرار قدم الأمين العام تقريراً تضمن مشروع النظام الأساسي للمحكمة وتعليقات على مواد النظام الأساسي .
وعلى أثر ذلك ، وإعمالاً لسلطات مجلس المُخولة له بموجب الباب السابع من ميثاق هيئة الأمم الأمم المتحدة , والتي لم يسبق تفسيرها سلفاً وفقاً لذلك المفهوم أصدر المجلس القرار رقم 827 بإنشاء المحكمة مقراً لمشروع الأمين العام بدون تعديل ، ومن ثم دخلت حيز التنفيذ في 25 مايو 1993 بمقرها في لاهاي بهولندا .
وقد نصت المادة الأولى من النظام الأساسي للمحكمة على أن من سلطاتها محاكمة الأشخاص المسئولين عن الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني والتي ارتكبت في يوغوسلافيا السابقة منذ عام 1991 ، بما يتلاءم مع نصوص النظام السياسي الحالي . ومن ثم اختصت المحكمة بنظر الجرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة الجنس وجرائم الحرب .
كما نص النظام الأساسي أيضاً على المسؤولية الجنائية الفردية بما في ذلك مسؤولية رئيس الدولة بالنسبة لبعض الانتهاكات المحددة والتي ارتكبت خلال الاختصاص المؤقت للمحكمة . وتلك الجرائم هي الانتهاكات الجسيمة لمعاهدات جنيف عام 1994 ، وانتهاكات قوانين وأعراف الحرب والإبادة الاجماعية والجرائم ضد الإنسانية  ([15]) .
أما من حيث اختصاص المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة ، على خلاف اختصاص محكمتي نورمبرج وطوكيو ، اللتين اقتصر اختصاصهما على بعض مجرمي الحرب ، امتد اختصاص محكمة يوغسلافيا لمعاقبة كل من ينتهك القانون الإنساني الدولي بغض النظر عن انتمائه لأي من أطراف النزاع .
ويبدو أن مكتب الادعاء في محكمة يوغسلافيا قد أجاد في تطبيق نصوص قانون المحكمة في اتهام " ميلوسوفيتش " تمهيداً لمحاكمته . ويُعد قرار الاتهام الصادر ضده هو الأول في تاريخ المحاكم الجنائية ، من حيث اتهام رئيس الدولة – إبان صراع مُسلح دائر- بارتكاب انتهاكات خطيرة للقانون الدولي الإنساني. ويقع على عاتق الادعاء عبء يتمثل في ضرورة إثبات أن الجرائم المتهم بها الرئيس مليوسوفيتش قد تم ارتكابها بناءً على أوامر صادرة منه أو بعلمه ، مما يلزم إثبات التسلسل القيادي بين من أصدر تلك الأوامر وبين الجنود وأفراد الميليشيات المقترفين للجرائم والمنفذين لتلك الأوامر .
وقد وجهت " كار لاديل بونتي " ممثل الادعاء في محكمة جرائم الحرب الدولية الخاصة بيوغسلافيا نداء إلى حلف " الناتو " لاعتقال ميلوسوفيتش  والآخرين وتسليمهم إلى المحكمة . قد رصدت بعض الدول المكافآت لاعتقال الرئيس اليوغسلافي .
ومن الجدير بالذكر ، أن " ميلوسوفيتش " لم يُقَدم إلى المحكمة يوغوسلافيا إلا في وقت متاخر، إذ كان من الضروري الإبقاء عليه لتوقيع اتفاق السلام الذي أبرم في   Dayton  واستمر الحال على ما هو عليه حتى أعاد " ميلوسوفيتش " الكرّة مرة أخرى بأن كرر ما فعله في البوسنة في كوسوفا ، بيد أنه اتهم هذه المرة بارتكاب جرائم التطهير العرقي في كوسوفو فقط ، واستمر في الحكم ضارباً بهذا الاتهام عرض الحائط حتى تم تغيير نظام الحكم في صربيا ، وتم تسليمه إلى المحكمة ، وتوفى قبل اتمام محاكمتة ([16]) .
هذا وقد مثلت " بيلينا بلافسيتش " رئيسة البوسنة السابقة – وهي ليست رئيس دول بالمعني الكامل حيث إن جمهورية صرب البوسنة المزعومة لم تكتسب وصف الدولة – أمام محكمة مجرمي الحرب الدولية في لاهاي ، وذلك عقب اعترافها بارتكاب جرائم ضد الإنسانية بمشاركة " ميلوسوفيتش " و " كاردايتش " . وقد أقرت " بلافسيتش " التي كانت نائبة " لكاراديتش " بأن الزعماء السياسيين كانوا لا يرتكبون أي عمل دون استشارة " ميلوسوفيتش " ، ونظراً لتعاون " بلافسيتش " مع المجتمع الدولي واعترافها بكل جرائمها وجرائم كل من " ميلوسوفيتش " وكاراديتش " فقد أدانتها المحكمة وحكمت عليها بعقوبة السجن 11 عاماً في عام 2003 .   

            
3- قضية بونشيه
شهد الواقع الدولي مشكلة تتعلق بمقاضاة احد رؤساء الدول السابقين – حاكم شيلي – والذي طلبت عدة دول اوربية ومنها فرنسا واسبانيا والسويد وسويسرا من انكلترا التي كان يتواجد على اقليمها تسليمه لمحاكمته عن جرائم الابادة والتأمر والاختفاء القسري والتعذيب وغيرها من الجرائم.
وتتخلص وقائع هذه القضية انه وبتاريخ 16 تشرين 1998م القي القبض على ( بونشيه ) بناءً على طلب القاضي الاسباني ( بالتزار نحاسون ) الى السلطات البريطانية بقصد تسليمه الى السلطات الاسبانية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الانسانية ومن ضمنها عمليات تعذيب واخذ رهائن والتآمر الارتكاب هذه الجرائم والتخطيط لها، وجرائم قتل في شيلي للفترة ما بين 1976-1992م عندما كان رئيساً للدولة، واعقب ذلك تم تقديم طلبات تسليم لبونشيه من قبل سويسرا بتهمة خطف وتعذيب وقتل مواطن سويسري، ثم تم تقديم ثماني شكاوى من لاجئين شيليين , دفع ( بونشيه ) عن نفسه بانه يتمتع بالحصانة الدبلوماسية في ظل القانون البريطاني باعتباره رئيس دولة سابق وان الاعمال المرتكبة منه في تلك الفترة كانت تنفيذاً لمهام عمله الرسمي بوصفه رئيساً للدولة.
احالت السلطات الموضوع الى هيئة الاستئناف في مجلس اللوردات وذلك لتحديد التفسير الملائم ونطاق الحصانة الخاصة برئيس الدولة السابق، من حيث اجراءات التوقيف وإلقاء القبض والتسليم في المملكة المتحدة عن الاعمال المرتكبة في الوقت الذي شغل فيه منصب رئيس دولة سابق.
وبتاريخ 25 تشرين الثاني 1998م وبأغلبية ثلثي عدد اللوردات الذين يشكلون الهيئة الخاصة في دراسة طلبات التسليم تقرر ان ( بونيشه ) لا يتمتع بالحصانة، لانه في الوقت الذي يمكن لرئيس دولة سابق ان يستمر بالتمتع بالحصانة فيما يتعلق بالاعمال المرتكبة اثناء ممارسته لمهام عمله أو اعمال كرئيس دولة، فإن الجرائم ضد الانسانية لا تعتبر من وظائف ( رئيس الدولة) ولا تشكل جزءاً من تلك المهام.([17])
وفي آذار 1998م رفضت اللجنة القضائية لمجلس اللوردات مبدأ الحصانة وقرر وزير الداخلية في نيسان 1999م تسليمه الى السلطات الاسبانية، غير انه ولاسباب صحيه تم اعادة (بونشيه ) الى شيلي لمتابعة قضيته امام القضاء الشيلي – وفي حزيران 2000م قررت محكمة الاستئناف بأغلبية سبعة عشر صوتاً ومعارضة ستة اصوات رفع الحصانة عنه ووافقت المحكمة العليا في شيلي في اب 2000م. على ذلك ليحاكم وهو في التسعين من عمره في قضيه تتعلق بجريمتي قتل في عام 1973م.

ومن الجدير بالذكر ان مجمع القانون الدولي ذهب في قراره الصادر في باريس عام 2001م الى ان رئيس الدولة الذي لم يعد في مهامه الرسمية لا يتمتع باي نوع من انواع الحصانات الرئاسية في أي دولة من الدول الاجنبية، واستثناء على ذلك يتمتع الرئيس السابق بحصانات رئيس الدولة اذا تعلقت الدعوى المرفوعة ضده بعمل من الاعمال الرسمية التي قام بها اثناء ممارسة مهامه الوظفية، كما نص القرار على ان الرئيس السابق لا يستفيد باي نوع من انواع حصانات رئيس الدولة ضد التنفيذ.([18])
الا انه من الواضح ان ممارسات الدول تختلف وليس واحدة يشأن هذا الموضوع، ونرى ان الاعتبار الحقيقي في تمتع الرؤساء السابقين بالحصانة من عدمه انما يقوم على مصالح الدول وعلاقاتها السياسية، فاذا وجدت ان إعمال حصانة رئيس الدولة السابق قد يضر بمصالحها مع بلاده أو الدول التي تطلب تسليمه لمحاكمته، فانها تعمد الى تسليمه غالباً. اما اذا وجدت ان منحه الحصانة يتفق مع مصالحها ولا يضر بها نجدها لا تتردد في منح هذه الحصانة.
خاصة وانه ليس في القانون الدولي ما يمنع من تقرير بعض الحصانات والامتيازات الرؤساء الدول السابقين، كما انه ليس في قواعد القانون الدولي ما يلزم الدول على تقرير مثل هذه الامتيازات. ([19])
ومن ذلك ان مصر قد احتفضت بالحصانة لكل من ملك المملكة السعودية الاسبق الملك (( سعود بن عبد العزيز) الذي لجأ اليها عام 1966م وكذلك ملك ليبيا السابق ((ادريس السنوسي)) بعد خلعه عام 1969م وكذلك رئيس السودان  ((جعفر النميري)) الذي لجأ الى مصر بعد الاطاحة به عام 1985م. ([20])








([1]) – د.هيثم المانع – الحصانة والجرائم الجسيمة -   http. www . Al Jazeera . net
) 1( M. Cherif Bassiouni , Combating impunity forinternational crimes .
 http// www.lawpac.colorado.Edu/cjielp/bassiouni/2,0,0e / framese 2000 p.409
([3]) كانت المادة السابعة من النظام الاساسي للمحكمة في اصلها تنص على ان صفة الشخص الوظيفية لا تعفي من المسؤولية ولكن قد تكون سبباً مخففاً للعقاب ، الا ان الجنة عندما صاغت المبدأ حذفت العبارة الاخيرة وحلت محلها عبارة ( ولن يؤخذ بنظر الاعتبار كعذر أو كسبب مخفف للعقوبة ) .
([4]) – د. حميد السعدي – المصدر السابق – ص 363 .
([5]) – قرار الجمعية العامة للامم المتحدة رقم 95/1 في 11 ديسمبر 1946م .
([6]) – د. عبد الوهاب حومد – الاجرام الدولي ، جامعة الكويت – ط1 – 1978م – ص 159 .
([7]) – د. محمد محي الدين عوض – دراسات في القانون الدولي – مجلة القانون والاقتصاد – ع 4،3،2،1  ص 250 .
([8]) – د. اليزابيث بوند – محكمة جرائم الحرب يوغسلافيا – خطأ واحد وايجابيات عده .   http://www.icaws.org/sit  
([9]) للمزيد انظر : د. محمد محي الدين عوض ، المرجع السابق ، ص 553 وما بعدها .
    د. حسنين عبيد " القضاء الدولي .. " المرجع السابق ، ص 84 وما بعدها .
([10]د. محمد محي الدين عوض ، المرجع السابق ، ص 554 .
([11]د. عبد الواحد محمد الفار ، المرجع السابق ، ص 125 .
      د. محمد محيى الدين عوض ، المرجع السابق ، ص 559 .
([12]د. حامد سلطان " القانون الدولي العام في وقت السلم " المرجع السابق ، ص 155 .
([13]) للمزيد في محكمة نورمبرج انظر :
Alwyn Freeman, War crimes by enemy nationals administering justice in occupied \  Territory, AJIL,Vol.41,1947.p.569.

([14]) شريف بسيوني " محاكمة الطغاة بيت عدالة القانون واعتبارات السياسة " مجلة وجهات نظر ، ع 32 ، ص 16 .    
([15]) د. محمد عبد المطلب الخشن – الوضع القانوني لرئيس الدولة . دار الجامعة الجديدة -2005-ص327
([16])  Sean D. Murphy , Progress and Jurisprudence of the international Criminal Tribunal for the Former Yugoslavia , AJIL , Vol.93, January 1999, PP.57:97.
-          Kelly D. Askin,  “ Sexual Violence in Decisions and indictments of the Yugoslavia and Rwanda , AJIL , Vol.93, January 1999, PP.97 : 124 .
اشار اليهما د. محمد عبد المطلب الخشن –المصدر السابق ص 330
([17]) ينظر :  د. عبد الله علي – المصدر السابق – ص 163 .
   د. هيثم المناع – المصدر السابق -  www.aljazeera.net  
([18]) د. محمد عبد المطلب الخشن – الوضع القانون لرئيس الدولة في القانون الدولي –دار الجامعة الجديدة للنشر – الاسكندرية – 2005م – ص 254 .
([19]) – د. احمد ابو الوفا – الوسيط في القانون الدولي العام – دار النهضة العربية القاهرة – 1998م -1999م- ص 339 . 
([20]) د. محمد عبد المطلب الخشن – المصدر السابق – ص 253 . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظه © القانون والتعليم

تصميم الورشه