المسؤولية الناتجة عن تنفيذ الاوامر في القانون الجنائي الوطني

0
المسؤولية الناتجة عن تنفيذ الاوامر في القانون الجنائي الوطني

درجت التشريعات الجنائية المقارنة على اعتبار تنفيذ اوامر الرؤساء الواجب اطاعتهم سبباً من اسباب الاباحة، مما ينفي عن الفعل صفة الجريمة وعدم المشروعيه.
ومن ثم فان استعمال السلطة من خلال تنفيذ الاوامر الرئاسية في مجال القانون الجنائي، قد يؤدي الى ان يرتكب بعض المرؤوسين من الموظفين جرائم معينة كجرائم القتل أو التعذيب، مستفيدين من اوامر رؤسائهم لدرء العقاب عنهم متذرعين بان طاعة رؤسائهم كانت مفروضة عليهم أو انهم قد اعتقدوا ذلك.
وفي هذا المجال من الدراسة نتطرق الى موقف بعض التشريعات الجنائية من المسؤولية الناتجة من تنفيذ الاوامر الرئاسية غير المشروعة.



المطلب الاول
التشريع الفرنسي

بين المشرع الفرنسي في قانون الجنايات الاثر المترتب على تنفيذ اوامر الرؤساء في حالتين:
الحالة الاولى: تتعلق بقيام المرؤوس بتنفيذ اوامر رئيس تجب طاعته أو اعتقد لاسباب معقولة ان طاعته واجبه، فنتج عن فعله اعتداء على حقوق وحريات الافراد، فيترتب على ذلك اعفاء المرؤوس من المسؤولية الجنائية، على ان يتحمل رئيسه المسؤولية الناجمة عن فعله([1])
الحالة الثانية: تتعلق هذه الحالة باستخدام السلطة وتنفيذ الاوامر الرئاسية بهدف اعمال القانون وتنفيذ احكامه، وهنا يعفى الموظف من المسؤولية عن افعال القتل والجروح الواقعة تنفيذاً لذلك.([2])
ويشترط لاعفاء المرؤوس من المسائلة الجنائية في هاتين الحالتين: ان يصدر الى المرؤوس امر رئاسي يترتب على تنفيذه وقوع جريمة. فاذا لم تكن هذه الجريمة مستندة الى امر رئاسي، واقدم المرؤوس على الفعل ابتداءاً دون وجود امر فلا يمكن ان يستفيد من هذا الاعفاء. كما يلزم لهذا الاعفاء ان يكون الامر صادراً من رئيس تجب طاعته فاذا قام المرؤوس باقتراف الفعل المعاقب عليه، بناءً على اوامر صدرت من شخص آخر لا تجب طاعته، فلا وجه للاستفادة من الاعفاء من المسؤولية.
اما في الوظيفة العسكرية فقد حدث تطور كبير في مجال طاعة الأوامر العسكرية في التشريع العسكري الفرنسي بصدور المرسوم رقم 749 الصادر في أكتوبر 1966 بشأن لائحة الانضباط العسكري حيث أخذ المرسوم صراحة بنظرية الطاعة النسبية وألزمت المادة الثانية عشرة منه جميع الأفراد والقوات المسلحة بالخضوع للقانون قبل الخضوع للنظام ونصت صراحة على مسؤولية المرؤوس الذي ينفذ أمرا غير مشروع أو ينفذ أمرا يشكل جريمة ضد الدستور أو أمن الدولة أو الأمن العام أو الاعتداء على الحق في الحياة وسلامة الجسيم وحريات الأفراد وحقوقهم واموالهم ومخالفة قوانين الحروب وتقاليدها  .
وقد جرى تعديلان على المرسوم رقم 749 المشار إليه بموجب مرسومى عام 1978، 1982 حيث أوجب هذان التعديلان على المرؤوسين عدم تنفيذ أمر واضح فيه عدم المشروعية أو لقواعد القانون الدولي المطبق في النزاعات المسلحة في الاتفاقيات الدولية المصدق أو الموافق عليها . ([3])





المطلب الثاني
التشريع الجنائي المصري

حدد المشرع المصري في قانون العقوبات اسباب الاباحة، وجعل من ضمنها، اداء الواجب باعتباره سبباً عاماً للاباحة يلتزم بموجبه الموظف والفرد العادي بطاعة القانون وتنفيذ اوامره، كما جعل من اسباب الاباحة ايضاً واجب الموظف بطاعة اوامر رؤسائه باعتباره واجباً خاصاً بالموظف العام وفي الحالتين تنفي عن الفعل صفة الجريمة ويعود الفعل الى نطاق الاباحة.
وفي ذلك نصت المادة 63 من القانون على انه (( لا جريمة اذا وقع الفعل من موظف أميري في الاحوال الاتية:
اولاً: اذا ارتكب الفعل تنفيذاً لامر صادر اليه من رئيس وجبت عليه طاعته او اعتقد انها واجبه عليه.
ثانياً: إذا حسنت نيته وارتكب فعلاً تنفيذا لما امرت به القوانين أو اعتقد ان اجراءه من اختصاصه)).
ويبدو من هذا النص انه للاستفادة من الاباحة يجب ان يصدر الامر الى الموظف من رئيس اداري مختص، له حسب القانون سلطة هذا الامر، وان يكون المرؤوس خاضعاً للسلطة الرئاسية للرئيس الذي اصدر الامر حسب قواعد التدرج الاداري والتبعية الرئاسية.
كما يلزم ان يكون الامر الصادراً من الرئيس قد استوفى كافة الشروط الشكلية والموضوعية لاصداره، فاذا اسلتزم القانون ان يكون الامر كتابياً، فلا يجوز الاستناد الى الامر الشفهي اذ ان تنفيذه في هذه الحالة يكون غير مشروع.
اخيراً يجب ان يتحرى الموظف ويتثبت من مشروعية الامر الصادر اليه ويمتنع من تنفيذه اذا كانت عدم مشروعية ظاهرة.
 اما على صعيد قانون العقوبات العسكري فقد جاء قانون الأحكام العسكرية المصري خالياً من أي نص على إباحة الفعل إذا كان بناء على أمر صادرة من القادة والرؤساء, ولكن المشرع نص في المادة 151 على أنه (( يعاقب ... عدم إطاعة امر قانوني صادر من شخص ضابطه الأعلى في وقت تأدية خدمته بطريقة يظهر منها رفض السلطة عمدا سواء صدر له هذا الأمر شفهيا أو كتابة لو بالإشارة أو بغير ذلك أو تحريضه الآخرين على ذلك )) ونصت المادة 152 على أنه (( يعاقب ... عدم طاعته أمرا قانونيا صادراً من ضابطه الأعلى سواء صدر الأمر شفهيا أو كتابة أو بالإشارة أو بغير ذلك )) . ويلاحظ من هاتين المادتين أنه يمتنع على الرئيس العسكري إصدار أوامر غير شرعية، كما يفهم منهما أن الطاعة لا تكون إلا للأوامر الشرعية، حيث وردت عبارتان هما ... عدم إطاعة أمر قانوني صادر من ضابطه الأعلى.
ويرى الدكتور مأمون سلامة أن سكوت المشرع عن إيراد أداء الواجب كسبب عام من أسباب الإباحة لم يكن سهوا من المشرع لأن أداء ذلك الواجب مفاده الالتزام بأمر أو واجب يستقى مصدره من نص قانوني، بالإضافة إلى أن هذا السبب من أسباب الإباحة يستفاد من مفهوم المخالفة لنصوص المادتين 151، 152 آنفتى الذكر واللتين تجرمان عدم إطاعة الأوامر الصادرة من الضابط الأعلى، مما يعني أن إطاعة الامر الصادر من الرئيس واجب يلزمه به القانون مع ما يترتب على ذلك من اعتباره سببا من أسباب الإباحة  ([4]) .



المطلب الثالث
التشريع العراقي

جاء المشرع العراقي في المادة (40) من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 بنص مشابه الى نص المادة 114 من القانون الجنائي الفرنسي، والمادة 63 من القانون الجنائي المصري، فورد (( لا جريمة اذا وقع الفعل من موظف أو شخص مكلف بخدمة عامة في الحالات التالية:
اولاً: اذا قام بسلامة نية بفعل تنفيذاً لما أمرت به القوانين أو اعتقد ان اجراؤه من اختصاصه.
ثانياً: اذا وقع الفعل منه تنفيذ لامر صادر من من رئيس تجب عليه طاعته أو اعتقد ان طاعته واجبه عليه.
 ويجب في الحالتين ان يثبت ان اعتقاد الفاعل بمشروعية الفعل مبنياً على اسباب معقولة وانه لم يرتكبه إلا بعد اتخاذ الحيطة المناسبة ومع ذلك فلا عقاب في الحالة الثانية اذا كان القانون لا يسمح للموظف بمناقشة الامر الصادر اليه )).([5])
يتضح من هذا النص انه تضمن حالتين يكون عمل الموظف فيها مباحاً هما.
-       تنفيذ امر القانون
-       تنفيذ امر الرئيس





 الحالة الاولى:
عبر المشرع العراقي عنها بقوله ((اذا قام بسلامة نية بفعل تنفيذاً لما امرته القوانين...)). وهنا يعد العمل قانونياً اذا أتاه الموظف وكان ضمن اختصاصه ولا جناح عليه حتى لو نتج عن هذا العمل ضرر، إذ انه يكسب صفة المشروعية من القانون مباشرة، كحالة الجلاد الذي يقوم بتنفيذ عقوبة الاعدام، فلا يكون والحال هذه مرتكباً لجريمة القتل. وحالة تفتيش دار متهم بعد استحصال امر بالتفتيش.
ويشترط في هذه الحالة ان يكون هذا العمل بسلامة نية وفي الحدود التي يجيزها القانون، فاذا قصد الموظف من تنفيذ امر القانون تحقيق اغراص ومآرب اخرى بعيدة عن الصالح العام كاستهداف مصلحة شخصية، فان المسؤولية تترتب عليه لفعله هذا ولا تتحقق الاباحة. ([6])

الحالة الثانية.
وهي حالة تنفيذ الامر الصادر من رئيس تجب طاعته أو يعتقد ان طاعته واجبة، وهو ما اشترطته المادة (40) من قانون العقوبات لتحقيق اعفاء الموظف من المسؤولية مايلي:

1- حسن النية.
يقصد بحسن النية ان لا يكون الموظف قد تعمد اخفاء قصد سيء تحت ستار تنفيذه للامر الصادر اليه عن رئيسه، وحسن النية هذا يتحقق باعتقاد المرؤوس ان إطاعة رئيسه واجبه أو اعتقاد ان من وجه اليه الامر شخص ملزم باطاعته وتنفيذ اوامره.
ومن الجدير بالذكر هنا انه لا يقبل الدفع بحسن نية المتهم واعتقاده مشروعية الامر الذي ينفذه، متى كانت عدم المشروعية واضحة أو مفضوحة، وكان الاجرام بادياً، فلا يقبل من عضو الضبط القضائي الذي يعذب معتقلاً لحمله على الاعتراف ان يدفع بانه ينفذ أمر رئيسه.




2- الاعتقاد بمشروعية الفعل.
لا يكفي ان يكون الموظف حسن النية لرفع مسؤولية الجنائية، فحسن النية المجرد لا قيمة له قانوناً، وانما يجب ان تكون الظروف التي صدر فيها الامر وأحاطت بالموظف تحمله على اعتقاد مشروعية الامر وتجعله يعتقد ان الامر الصادر اليه تجب طاعته أو ان الشخص الذي وجه الامر رئيس تجب طاعته.

3- التثبت والتحري:
    استلزم نص المادة (40) لاعفاء الموظف من المسؤولية، ان يتحرى عن مشروعية الامر وان يتخذ الحيطة والحذر عند تنفيذه، فمن واجب المرؤوس مثلاً ملاحظة ما اذا كان الرئيس مختصاً في اصدار هذا الامر، وعليه ان يمتنع عن التنفيذ اذا تبين له عدم اختصاصه أو كان الامر يشكل مخالفة ظاهرة للقانون أو يضر بالمصلحة العامة ضرراً جسيماً.
غير ان واجب التثبيت والتحري يدعو الى التساؤل: هل من حق الموظف المرؤوس ان يفحص امر رئيسة، ليقدر ما اذا كان مشوباً بعيب يجعله غير مشروع وغير قابل للتنفيذ ؟
يرى الفقه انه متى كان العيب في امر الرئيس ظاهراً، فانه لا يمكن للمرؤوس ان يدفع المسؤولية عن نفسه، ويعاقب متى قام بتنفيذه، لكن متى كان العيب غير ظاهر، ولا يستطيع المرؤوس كشفه رغم قيامه بالتثبت والتحري، كان المرؤوس ملزماً بتنفيذه، ويعفى من المسؤولية اذا ثبت بعد ذلك انه نفذ أمراً معيباً.
ومن المعروف ان امر الرئيس يكون واضحاً في عدم مشروعيته اذا كان متضمناً ارتكاب جريمة، اذ لا يجوز للمرؤوس ان ينفذ هذا الامر، لان طاعة الرؤساء لا ينبغي ان تكون جريمة. ([7])
وعلى عاتق المرؤوس يقع عبء اثبات ما يدعيه من ان الامر كان صادراً عن رئيس مختص واجب الطاعة أو انه اعتقد بناءً على  اسباب معقولة ان طاعتة كانت واجبه.

موقف التشريع العسكري العراقي:
لابد من القول انه في الاحوال التي يمنع فيها القانون مناقشة الامر الصادر الى الموظف – وهو ما يحصل دائماً في الوسط العسكري – يكون الموظف في حل من استلزام البحث في وجود او توافر شرطي سلامة النية واتخاذ الحيطة، ويكون كافياً في هذه الحالة ان يثبت اعتقاد الموظف انه مرؤوس لمن أصدر الامر، واذا توافرت هذه الشروط المتقدمة فإن العمل غير المشروع لا يصبح مشروعاً وانما كل ما في الامر هو اعفاء المرؤوس من المسؤولية لتخلف ركن من اركان الجريمة وهو الركن المعنوي وهذا الاعفاء يتعلق بشخص المرؤوس ولا يسري الى غيره من المساهمين وتنصرف المسؤولية الى الرئيس الذي اصدر الامر.
ولابد من التذكير بان طاعة الاوامر من اهم الاسس التي تقوم عليها الوظيفة العسكرية، وذلك يسبب اتصال هذا الواجب بعمل القوات المسلحة، وتعلق نجاح أو فشل أي عملية عسكرية على الكيفية التي يتلقى العسكري الاوامر وتنفيذه لها.
وقد عالج المشرع العراقي جريمة عدم الطاعة في المواد 78 الى 81 من قانون العقوبات العسكري رقم 13 لسنة 1940. وبسبب الطبيعة الخاصة للوظيفة العسكرية نجد ان واجب الطاعة فيها اشد منه في الوظيفة المدنية. تنص المادة 78 من قانون العقوبات العسكري رقم 13 لسنة 1940 على انه (( كل من لم يطع امرا يتعلق بواجباته قصداً أو اهمالاً منه وذلك اما بعدم تنفيذ الامر على ما يرام واما بتغييره أو مجاوزة حدوده يعاقب بالاعتقال وتكون العقوبة مدة لا تزيد على ستة اشهر اذا تكررت هذه الجريمة وتصل العقوبة الى السجن مدة لا تزيد على خمس عشر سنة واذا ارتكب الجريمة في مجابهة العدو )) . ([8])

وازاء هذا المستوى المتشدد من الطاعة اختلفت الاراء في مدى طاعة السلطة الرئاسية في مجال الوظيفة العسكرية، فذهب البعض الى ان الطاعة الواجبة على العسكري هي الطاعة المطلقة أو العمياء حتى لو كانت الاوامر مخالفة للقانون، بينما ذهب البعض  الاخر الى انه لا يجوز للموظف ان يطيع رؤساءه فيما يخرج على القانون. بينما ذهب رأي ثالث الى ان الطاعة واجبة مالم يكن الامر متعلقاً بمخالفة ظاهرة للقانون.




)1( Article (114) Code penal .
)2( Article ( 327) , ( 190)   Code panal .
([3])- ينص القانون الخاص بالقوات المسلحة الأمريكية رقم 600/20 في المادة 29 منه على ما يلي (( الطاعة أن تكون للأوامر الشرعية وكل الأفراد الموجودين في الخدمة العسكرية مطالبون بالطاعة الكاملة )) إلا أنه حينما يبدو الأمر واضحا عدم مشروعيته فإنه لا يكون للمرؤوس أن يحتمي خلفه وينفذه بنفسه، ويكون عليه واجب بعدم إطاعته، اما في حالة الشك في قانونية الأمر فإنه تكون فيها المشروعية المطلقة والملائمة للأوامر متوقفة على الظروف والأحوال التي يمكن للمرؤوس أن يدركها أو يطلع عليها وإن أمر الرئيس يجب أن يحمى المرؤوس بإسقاط المسئولية عنه لتبقى في مواجهة الضابط الذي أصدر الأمر      
ينظر : حسين عيسى مال الله – المصدر السابق –ص 392 .
([4]) الدكتور مأمون سلامة – قانون الأحكام العسكرية  ص 166 مشار اليه في بحث العميد حسين عيسى مال الله – المصدر السابق  - ص 392 .
([5]) – للمزيد ينظر :
        د. محمود محمد مصطفى – شرح قانون العقوبان – القسم العام ط.1 سنة 1983 – ص 204 .
        د. محمود نجيب حسني – شرح قانون العقوبات – القسم العام – دار النهضة العربية 1977 ص 244 .
([6])   للمزيد ينظر :
-         د. فخري عبد الرزاق الحديثي – شرح قانون العقوبات القسم العام . بغداد 1992 ص 120  .
-         د. حميد السعدي – شرح قانون العقوبات الجديد – ط2- دار الحرية للطباعة – بغداد – 1976 ص 337 .
-         د. ماهر عبد شويش – المصدر السابق – ص 332 .
([7]) – د. مأمون سلامة – قانون العقوبات القسم العام – ط 3 – دار الفكر العربي – 1982 – 1983 . ص 211 .
([8]) – د. مازن ليلو راضي – المصدر السابق – ص 86 . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظه © القانون والتعليم

تصميم الورشه