تقرير الرقابة القضائية على دستورية القوانين
إن سمو الدستور سيكون كلمة بلا معنى
إذا كان من الممكن انتهاكه من جانب السلطة التشريعية أو التنفيذية، وذلك إذا لم
تخضع أعمالها للرقابة على دستورية القوانين واللوائح ([1])،
ولا شك أن الرقابة القضائية هي الرقابة الفاعلة باعتبار وظيفة القضاء الطبيعية في
حماية الحقوق والحريات وحراسة الشرعية في الدولة، ولكن بسط القضاء رقابته على
دستورية القوانين تقف أمامها عقبات أهمها ما يثيره المعترضون من أن اختصاص القضاء
بهذه الرقابة يعد خروجا عن مهمته في تطبيق القانون، وخرقا بالتالي لمبدأ فصل
السلطات، خصوصا وان الدستور أوكل اختصاص رقابة الدستورية للمجلس الدستوري، فكل ذلك
مانعا من هذه الرقابة القضائية، ولكن ألا تعد القواعد الدستورية قواعد قانونية
فتندرج ضمن القواعد التي يطالب القاضي بتطبيقها؟ وإذا وقع التعارض بينها وبين
القواعد القانونية الأخرى فكيف يتصرف القاضي مع هذا التعارض؟ وماذا يفعل القاضي
أمام الدفع بعدم دستورية قانون معين؟ هل يحيل الدفع للمجلس الدستوري؟ أليس هذا
الحل ممنوعا عليه؟ فما الحل أمام التزامه بالرد على الدفوع؟ ثم هل حقا مبدأ فصل
السلطات يعد عائقا أمام بسط القاضي لرقابته على دستورية القوانين؟
إن سلطة القضاء في رقابة دستورية القوانين يستمدها من التزامه
بتطبيق القانون (الفرع الأول) والتزامه باحترام حقوق الدفاع وبالتالي
إلزامية الرد على الدفوع (الفرع الثاني) ويتدعم هذا بالنظر للمدلول الحقيقي
لمبدأ فصل السلطات والذي سيقود للنتيجة السابقة وليس العكس(الفرع الثالث).
الفرع الأول
التـزام القاضـي بتطبيـق القانـون
الاتفاق حاصل على كون وظيفة القاضي هي تطبيق القانون للفصل في النزاعات
المعروضة عليه، ولا شك أن القانون المقصود هو القانون بمعناه الواسع، فيندرج ضمنه
كل القواعد القانونية المكتوبة منها وغير المكتوبة، والمادة الأولى من القانون
المدني تؤكد ذلك، فتندرج القواعد الدستورية ضمن مضمون القانون الذي يلتزم القاضي
بتطبيقه([2])،
وهذا الأمر لا إشكال فيه إذ يعد سليما من الناحية النظرية ويسلم به الفقه والقضاء،
ولكن المسألة تصبح محل نظر عند التعارض بين نص دستوري ونص تشريعي، فهنا
كيف يتصرف القاضي؟ هل سيطبق النص التشريعي تماشيا مع الرأي القائل بامتناع
القاضي عن التعرض لمسألة صحة القانون من الناحية الموضوعية، وإن جاز له فحصه من
الناحية الإجرائية ؟ أم أن القاضي سوف يوازن بين النصين فإذا وجد التعارض ثابتا
بينهما أعمل مبدأ التدرج الذي يفرض إهمال النص الأدنى والفصل في النزاع طبقا للنص
الأعلى؟
إن الاتجاه الغالب في الفقه
والقضاء المقارن يرى أن القضاء عليه أن يقوم بالرقابة على دستورية القوانين، إذ
يعد ذلك من صميم عمله القضائي فيكون ذلك التزاما وجوبيا لا جوازيا، لأن مهمته تشمل
أية ناحية تتعلق بتطبيق القوانين ومراعاة ترتيبها، فالمهمة الأساسية للقاضي تقوم
على تطبيق القانون فيلتزم أولا بتعيين القاعدة التي يجب مراعاتها، وتغدو مهمته
التي لا يستطيع التهرب منها منصبة على حل المناقضات التي يمكن أن تثور أمامه بين
القواعد القانونية، وهذا في الواقع ما يعمله بصورة مستمرة إذ أنه يفصل في النزاع
بين القانون القديم والقانون الجديد، وبين القانون العام والقانون الخاص، وبين
القانون الوطني و القانون الأجنبي، وعلى ذلك فالتزام القاضي بتطبيق القانون يندرج
ضمنه التزامه بإزالة التعارض بين القوانين بتغليب القانون الأعلى واستبعاد القانون
الأدنى، وبالتالي فإذا كان التعارض بين الدستور والقانون فإنه يستبعد القانون
لصالح الدستور، وهو في أدائه هذا الدور لم يخرج عن دوره في تطبيق القانون لاندراج
أحكام الدستور ضمن مفهوم القانون الذي يخاطب القاضي بتطبيقه([3])،
وفي نفس الإطار يرى بعض الفقه أن القانون
المخالف للدستور لا يعد موجود أصلا([4])
فلا يقع على القضاة عبء تطبيقه مادام مخالفا للدستور أي منعدما، فالقاضي ملزم
بتطبيق القانون طالما صدر وفقا للقواعد الدستورية، فإذا جاء خرقا لها فإنه يعد غير
نافذ ولا يلتزم القاضي بتطبيقه، لأن واضعه خرج عن الشرعية الدستورية للقانون، وهذا
هو مقتضى مبدأ تدرج القواعد القانونية وسمو الدستور.
وفي هذا تقول المحكمة الدستورية
العليا المصرية([5]): "
إن نصوص الدستور تمثل القواعد والأصول التي يقوم عليها نظام الحكم في الدولة، ولها
مقام الصدارة بين قواعد النظام العام التي يتعين التزامها ومراعاتها باعتبارها
أسمى القواعد الآمرة وإهدار ما يخالفها من تشريعات بغية الحفاظ على مبادئه(الدستور)
وصون أحكامه من الخروج عليها "
وتؤكد ذات المحكمة حتمية الرقابة القضائية على دستورية القوانين بقولها: "إن
مبدأ الشرعية وسيادة القانون وهو المبدأ
الذي يوجب خضوع سلطات الدولة للقانون والتزام حدوده في كافة أعمالها وتصرفاتها،
هذا المبدأ لن ينتج أثره إلا بقيام مبدأ آخر يكمله ويعتبر ضروري مثله لأن الإخلال
به يودي بمبدأ المشروعية ويسلمه إلى العدم، ذلك هو مبدأ الرقابة القضائية على
دستورية القوانين من جهة، وعلى مشروعية القرارات الإدارية من جهة أخرى لأن هذه
الرقابة القضائية هي المظهر العملي الفعال لحماية الشرعية وهي التي تكفل تقييد
السلطات العامة بقواعد القانون، كما تكفل رد هذه السلطات إلى حدود المشروعية إن هي
تجاوزت تلك الحدود وغني عن البيان أن أي تضييق في تلك الرقابة ولو اقتصر التضييق
على دعوى الإلغاء سوف يؤدي حتما إلى الحد من مبدأ الشرعية وسيادة القانون ولذا
يتعين أن تقف سلطة المشرع إزاء حق التقاضي عند حد التنظيم فلا تجاوزه إلى الحظر أو
الإهدار"([6])
وبالتالي فطاعة القانون لا تمنع من رقابة مطابقته للدستور. وفي حكم "مارشال"([7])
الذي يربط الفقه بينه وبين نشأة مبدأ الرقابة القضائية على دستورية القوانين والذي
صدر عام 1803 جاء فيه: "من واجب الهيئة القضائية أن تفسر القانون وتطبقه
وعندما يتعارض نص تشريعي أو قانون مع الدستور فإن السمو والبقاء يكون
للدستور " وهو ما تم تكريسه لاحقا في قضاء عديد الدول، ومنها القضاء
الروماني حيث أصدرت المحكمة العليا الرومانية حكما سنة 1912([8])
جاء فيه: "حيث انه في حالة التعارض يكون من حق القاضي التثبت من دستورية
القانون العادي فإذا اتضح له مخالفته للدستور وجب عليه تفضيل النصوص الدستورية،
ولا يمكن القول أن القاضي في هذه الحالة قد خرج عن اختصاصه واعتدى على
اختصاص السلطة التشريعية، بل بالعكس إن القاضي بعمله هذا إنما يقوم بوظيفته
القانونية وهي معرفته أي قانون يجب تطبيقه في النزاع المعروض عليه" وعلى
ذلك فالسلطة الدستورية المقررة للمحاكم في تفسير وتطبيق القوانين، تفترض المفاضلة
بين القوانين المطلوب تطبيقها على النزاع، بحيث ترجح القانون الأعلى مرتبة وتهمل
القانون الأدنى، ومن ثم إذا ما تعارض حكم القانون مع الدستور وجب إعلاء الأخير
وإهمال الأول، ذلك أن السيادة دائما يجب أن تكون للدستور.
ومعنى هذا جميعه أن عمل القضاء
ونشاطه من اجل تطبيق القانون يجب أن يتم في إطار المفهوم الذي
سبق تحديده لمبدأ تدرج القواعد القانونية، حيث انتهينا إلى اعتبار القواعد
الدستورية مصدرا للمشروعية العليا في الدولة، فتقف على قمة درجات أو طبقات النظام
القانوني، وعلى ذلك فإن القاضي باعتباره السلطة المنوط بها تفسير القانون وتطبيقه،
عليه إذا ما عرض له عارض أي إذا ما اكتشف تعارضا بين التشريع الذي يهم بتطبيقه
وبين الدستور أن يتصدى لهذا العارض ويسعى إلى إزالته ليمهد السبيل إلى التطبيق
الصحيح للقانون.
الفرع الثاني
التزام القاضي باحترام حقوق الدفاع
يعتبر مبدأ احترام حقوق الدفاع([9])
أحد الدعائم الإجرائية الأساسية في كل الأنظمة الإجرائية،ولهذا تتشدد المحاكم العليا في مختلف الدول في
الرقابة على الأحكام التي تتجاهل حق الدفاع باعتبار ذلك مسألة قانون تخضع
لاختصاصها، واستنادا لحق الدفاع فإن
القاضي يلتزم بالرد على الدفوع المبداة أمامه سواء منها المدنية أو الإدارية أو
الجزائية طالما كانت جدية، وهذا تحت طائلة عدم التسبيب الذي يجعل حكمه عرضة للنقض
والإبطال من الجهات القضائية العليا، وهو ما كرسته المحكمة العليا في قرارها
الصادر بتاريخ 21 /05/1984([10])
الذي جاء فيه: "من المقرر قانونا
أن القرار الذي لا يستجيب في تسبيبه إلى طلبات أو دفوع احد أطراف الدعوى فإن هذا
القرار يكون مشوبا بانعدام التسبيب" وكذالك القرار المؤرخ في
26/11/1984([11])
الذي جاء فيه: "من المقرر قانونا أن كل قرار يجب أن يتضمن الإجابة عـلى
كافة الطلبات والدفوع المقدمة من أطراف الدعوى دون تفرقة أو تمييز بالأوجه
المستظهر بها لتأييد طلب أو دفع والقضاء بما يخالف هذا المبدأ يجعله مشوبا بعدم
التسبيب"
ومن الدفوع التي قد تثار أمام القاضي
الدفع بعد دستورية القانون المراد تطبيقه في النزاع فكيف يتصرف القاضي ؟
تفرض القوانين الإجرائية سواء منها المدنية أو الجزائية على القاضي الرد
على الدفوع ومناقشتها، إذ يستشف من المادة 38 والمادة 144 من قانون
الإجراءات المدنية، والمادة 330 و331 من قانون الإجراءات الجزائية،
أن الجهة القضائية ملزمة بالاستماع للدفوع المقدمة إليها وبمناقشتها وتدوينها في
حكمها والرد عليها تحت طائلة عدم التسبيب، ولا شك أن القاضي سيجد نفسه أمام موقفين
قد يتخذهما أمام الدفوع الجدية، فهو إما يجيب على هذه الدفوع ولو كان غير مختص بها
طبقا لقاعدة(قاضي الأصل هو قاضي الفرع) أو(قاضي الدعوى هو قاضي
الدفع) وهو مقتضى المادة 330من قانون الإجراءات الجزائية، أو أنه يوقف
الفصل في الدعوى، ويحيل الإطراف للجهة القضائية المختصة لتفصل في هذا الدفع طالما
وجد مانعا من الفصل فيه من طرفه، وهو ما تقرره المادة 331 من قانون
الإجراءات الجزائية، فأي الموقفين يسلكه القاضي بالنسبة للدفع بعدم دستورية
القوانين ؟
الأصل أن يتحدد اختصاص المحكمة بطلب
المدعي الأصلي وبالخصومة الناشئة عنه، إلا أن اختصاص المحكمـة يمتد كثيرا إلى
مسائل أخرى، إذ قد تتفرع الخصومـة بما يثار فيها من مسـائل، والتي منها المسائل
الفرعية أو الطارئة التي تثور أثناء نظر الدعوى وتختص بها المحكمة بما لها ولاية
ممتدة أو تكميلية لولايتها الأصلية بنظر الطلب الأصلي، وهناك أيضا الدفوع التي
تثار أثناء سير الخصومة، وتختص بها أيضا المحكمة التي تنظر الطلب الأصلي على أساس
تمتعها بولاية تكميلية وأن من اختص بالأصل له أن ينظر الفرع المتولد عنه، ولكن
امتداد اختصاص محكمة الأصل لتلك المسائل الفرعية أو الدفوع إنما يكون في حدود
معينة، إذا أن قاعدة قاضي الدعوى هو قاضي الدفع تمنح للمحكمة سلطة الفصل في الدفوع
المبداة أمامها مالم ينتج عن الدفع مسألة أولية تخرج عن اختصاص المحكمة،
فهنا لا تنظرها محكمة الدعوى الأصلية، والمسألة الأولية هي مسألة يتوقف الحكم في
الدعوى على الفصل فيها، والأصل أن قاضي الدعوى الأصلية لا يفصل فيها رغم تلازمها
مع الطلب الأصلي لكونها لا تدخل في اختصاصه، ومن المسائل التي يعتبرها الفقه
أولية(مسألة دستورية القوانين) فإذا كانت إحدى المحاكم تنظر نزاعا وستطبق
نصا معينا على هذا النزاع ووجد أحد الخصوم أن هذا النص غير دستوري فله أن يثير
مسألة عدم الدستورية، ناهيك عن انه لو اعتبرناها من النظام العام فسيثيرها القاضي
من تلقاء نفسه، وهنا تتوقف المحكمة عن الفصل في النزاع إلى أن تحسم مسألة دستورية
هذا النص([12])،
هذا بالنسبة للدول التي تفسح المجال لإحالة تلك المسألة لمحكمة دستورية متخصصة
كمصر وسوريا، أما في الجزائر فلا توجد مكحمة دستورية بل مجلس دستوري ولا يملك
القضاء أو الأفراد حق إخطاره، فماذا يفعل القاضي أمام الدفع بعدم دستورية
القانون ؟
إنه نظرا لغياب محكمة مختصة بالفصل في دستورية القوانين فقد اختلف الفقه
حول مدى سلطة القاضي تجاه القوانين المخالفة للدستور، فهناك من ذهب إلى أن القاضي
يجب عليه أن يمتنع عن تطبيق القانون المخالف للدستور، وهناك من ذهب إلى عكس ذلك
نظرا لالتزام القاضي بتطبيق القانون دون مراقبة مطابقته للدستور، وعلى ذلك
فالمسألة تحتاج إلى وقفة تحليلية عميقة .
إن الاتفاق حاصل لدى الفقه والقضاء
على أن القاضي عندما يخول النظر في نزاع معين ملزم – مالم يمنع بنص صريح – بالفصل
في جميع المسائل المادية والقانونية التي يعتبر حلها ضروريا لإصدار الحكم في
النزاع([13])،
وهذا مقتضى مبدأ (قاضي الأصل هو قاضي الفرع) فعند ما يدلي بقبوله سبب يتعلق
بعدم دستورية قانون ما عن طريق الدفع يكون الحكم بالضرورة عكس
الإدلاء به بطريق الدعوى، فيحتاج القاضي لقبول الدعوى نصا يخوله الاختصاص
بالفصل فيها، أما الدفع فإنه يكون دائما مقبولا أمام القاضي، إذ الفصل في الدفوع
هو اختصاص يتقرر بحكم اختصاصه بالدعوى لا بنص خاص في القانون، وطالما لم يوجد نص
قانوني في الجزائر يمنع القاضي من الرد على الدفع بعدم السدتورية، فإن معنى ذلك هو
إلزامية قيام القاضي بمناقشة هذا الدفع والرد عليه إيجابا أو سلبا([14]).
وهذه المسألة من المفروض أن لا تثير إشكالا في الجزائر لكون الدستور الجزائري لم
يوجد محكمة دستورية خاصة، ولا فتح المجال
لإحالة الدفع بعدم الدستورية إلى المجلس الدستوري من طرف القضاء أو
الأفراد، إضافـة إلى أن الدستـور لم يمنع صراحة أو ضمنا الدفع بمخالفة القانون للدستور،
ولا منع القاضي من الفصل فيه، ولهذا يكون الدفع مقبولا، والقاضي عند ما يأخذ
بالدفع لا يساق إلى إبطال القانون بل يقف بوجه تطبيقه على النزاع المطروح
عليه، ومن ثمة فطالما لم ينشئ المشرع
الدستوري هيئة قضائية خاصة بالرقابة على دستورية القوانين، ولم يفتح المجال لوقف
الدعوى وإحالة الأطراف إلى المجلس الدستوري، فإنه لا يسوغ للقاضي الجزائري إلا حلا واحدا وهو أن يفصل في
هذا الدفع، لا بأن يحكم بعدم اختصاصه بل بان يبسط رقابته على دستورية القانون
المطعون فيه، وإلا كان حكمه معيبا في تسبيبه ([15]).
على أن أشد ما في الأمر أن القاضي لا يستطيع جهارة التهرب من أداء مهمته
وإن كان يستطيع أن يخونها، فمادام الدستور لا يتضمن نصا يحظر بحث الدفع بعدم
دستورية القانون وقد عمد القاضي إلى رده بصورة مستمرة، فتكون النتيجة مهما أراد
الدفاع عن خطته امتناعا عن تطبيق أحكام الدستور وتفضيل القانون العادي المتعارض
معه، فيكون في الواقع قد فصل في التنازع بين القواعد القانونية المعروضة عليه
ولكنه أخطـأ في قضائه، إذ انه ضحى بالقـاعدة العليـا أي الـدستور بعدم مراعاتها،
واعتمد القاعدة الدنيا أي القانون العادي([16]).
ومفاد ذلك أن القاضي الجزائري يجد نفسه بين أمرين لا يمكنه تجنبنهما فإما
أن ينظر إلى دستور بلاده بصورة جدية واضعا أحكامه في المرتبة العليا من القواعد
القانونية، بحيث تتغلب على أية قاعدة أخرى
ويقبل حينئذ الدفع بعدم دستورية القانون، وإما أن يرفض الدفع بعدم دستورية
القانون، وفي هذه الحالة ينكر في الواقع كل قوة قانونية لأحكام الدستور، ويعكس
بالتالي الترتيب الطبيعي للقواعد القانونية . ويصلح في هذا الإطار الاستدلال بما
جاء في إحدى إحكام المكحمة العليا الليبية في الطعن المدني رقم 3 /36([17])
إذ جاء: "إن المشرع وإن نزع من المحكمة العليا اختصاصها في الرقابة
على دستورية القوانين...إلا انه لم يمنع القاضي من النظر في الدفع بعدم صحة
التشريع المعين في الدعوى الماثلة أمامه إذا تعارض مع تشريع آخر انطلاقا من وظيفته
الأصلية في تفسير القانون وليس له في هذه الحالة أن يوقف النظر في الدعوى انتظارا
لتشريع ثالث يزيل التعارض بينهما لأن وقف الدعوى في مثل هذه الحالة يعد امتناع عن
الفصل فيها وهو ما يحرمه المشرع على القاضي "
ويلاحظ أن حق الدفع بعد دستورية القوانين أمر يكاد أن يكون مقررا في الدولة
القانونية، وأن القضاء في عديد الدول اعتمد هذا المبدأ وكرس حق القضاء في الفصل
فيه، باستثناء القضاء الفرنسي الذي مازال
مصرا على التمسك برأيه المتمثل في انه: " لا يجوز له النظر في الدفع الفرعي
الخاص بعدم دستورية القانون " ولقد أنحى الفقه الفرنسي في شبه إجماع
باللائمة على موقف القضاء الفرنسي ونادى بضرورة تقرير رقابة القضاء لدستورية
القوانين بطريق الدفع .
وعلى خلاف القضاء الفرنسي أبدى القضاء المصري شجاعة نادرة في التمسك
باختصاصه برقابة الدستورية عن طريق الدفع رغم عم وجود نص يسمح له بذلك، بل ورغم
وجود المحكمة الدستورية العليا، فالرقابة الدستورية عن طريق الدفع هي رقابة عامة
يختص بها أي قاضي تم الدفع بعدم الدستورية أمامه ودون حاجة إلى نص يسمح للقاضي
بذلك، وهو ما جاء في الحكم الصادر عن محكمة مصر الابتدائية بتاريخ 1/05/1946([18])إذ
جاء فيه بأن: "للمحاكم جميعها حق الرقابة على دستورية القوانين
واللوائح " وهو الحكم الذي ألغته محكمة الاستئناف([19])،
لكن القضاء المصري بنوعيه – العادي والإداري – ظل مصرا على انتزاع هذه الولاية،
لأنه لا يجوز وفقا لمبدأ تدرج القوانين وعند تعارض قانون عادي مع الدستور إلا
تغليب هذا الأخير والامتناع عن تطبيق القانون العادي، إذ قرر مجلس الدولة المصري
في حكمه الصادر بتاريخ10/02/1948([20]):
"انه ليس في القانون المصري ما يمنع المحاكم المصرية من التصدي لبحث
دستورية القوانين سواء من ناحية الشكل أو الموضوع " وبالنسبة للقضاء
الجزائري فيحسن به تقرير حقه بالفصل في الدفع بعدم دستورية القوانين إذ لا يوجد نص
دستوري أو تشريع يمنعه عن ذلك .
الفرع الثالث
مبدأ فصل السلطات يؤكد حق القضاء في الرقابة الدستورية
رغم كون السمو الدستوري وما يترتب عليه من بطلان
القوانين المخالفة له، ورغم الأسانيد السالفة الذكر التي تؤسس بما لا يدع مجالا
لشك حق القضاء في رقابة دستورية القوانين، فإن المعترضين يقفون في وجه هذا الرأي
بالاستناد إلى مبدأ فصل السلطات، فبحسبانهم إن قيام القاضي برقابة
الدستورية يعد تدخلا في اختصاص السلطة التشريعية من جهة، وتعدي على اختصاص المجلس
الدستوري باعتباره مكلفا برقابة الدستورية من جهة أخرى، وهذا الطرح مردود عليه، إذ
الفهم الصحيح لمدلول مبدأ فصل السلطات سوف يقود إلى عكس تلك النتيجة، فلا تعد
رقابة القضاء للدستورية تدخلا في التشريع(أولا) ورقابة المجلس الدستوري
لا تمنع رقابة القضاء (ثانيا) .
أولا: رقابة القضاء لا تعد تدخلا في التشريع:
بالنظر إلى
الجدل الدائر بين أنصار الرقابة القضائية ومعارضيها حول علاقة مبدأ فصل السلطات
بمسألة رقابة القضاء على الدستورية، فإنه يتوجب تحديد مدلول هذا المبدأ في الدستور
الجزائري.
لقد ارتبط مبدأ فصل السلطات([21])
بالفقيه "مونتسكيو" الذي صاغه صياغة متميزة في كتابه "روح
القوانين" وحسب رأيه فإن الأخذ بهذا المبدأ يضمن ممارسة واحترام الحقوق والحريات
الفردية لكونه يقتضي توزيع وظائف الدولة الثالث (التشريع والتنفيذ والقضاء) على
هيئات ثلاث تسمى سلطات، فتباشر السلطة التشريعية التشريع، وتباشر السلطـة
التنفـيذية مهـمة تنفيذ القانون، وتقوم السلطة القضائية بتطبيق القانون على كل ما
يطرح أمامها من منازعات، وهذا المبدأ يمثل إحدى ضمانات دولة القانون، ذلك انه يعد
وسيلة فعالة لمنع الاستبداد وصيانة الحريات وتحقيق شرعية الدولة، لأنه يوجد رقابة
متبادلة بين السلطات، مما يكفل احترام القانون من طرفـها جميعا، وعلى ذلك فمبدأ
الفصل لا ينافي مبدأ الرقابة المتبادلة بين سلطات الدولة([22])،
بل على العكس من ذلك يعد ذلك المبدأ إحدى مضامينه وأهدافه الأساسية، إذ لا معنى
للفصل إذا لم يفتح المجال للرقابة المتبادلة بما يكفل خضوع الدولة للقانون بكامل
سلطاتها وأجهزتها، فهذا المبدأ يشير إلى
نوع من التخصص في الوظيفة في ما بين السلطات، بحيث لا يباح كأصل عام لأي
سلطة منها أن تعتدي عن الوظيفة التي تختص بها سلطة أخرى، ومع هذا التخصص الوظيفي
يوجد نوع من التعاون والرقابة المتبادلة، لأن ذلك لا يتنافى مع استقلال كل منها،
وليس له أدنى مساس بالتخصص الوظيفي ،فالرقابة المتبادلة لا تعد خرقا لمبدأ الفصل
بل تعد إحدى مقتضياته، لأنها تؤدي إلى ضمان اعتدال السلطات وتكفل حماية حقوق
وحريات الأفراد ،وبذلك يكون هذا المبدأ يعني تخصص وظيفي من جهة، ورقابة متبادلة من
جهة أخرى، وقد تضمن الدستور الجزائري الأمرين معا فمع اعترافه بوجود السلطات
الثلاث وتخصص كل سلطة بوظيفة تخصها،فإنه تضمن وجوها للرقابة المتبادلة بين تلك
السلطات، إذ تملك السلطة التنفيذية حق الاعتراض على القوانين وإرجاعها لإجراء
مداولـة ثانية، وحق إخطـار المجلس الدستوري، بل وتملك حق حل البرلمـان، ومقابل ذلك
تملك السلطة التشريعية حق مراقبة الحكومة عن طريق الأسئلة والاستجواب وسحب الثقة
وغيرها من الوسائل في مواجهة الحكومة، لكن أجل أنواع الرقابة وأبعدها أثرا في
علاقة السلطات بعضها ببعض تلك الرقابة المعروفة باسم الرقابة على دستورية القوانين
والرقابة على مشروعية اللوائح الممنوحين للقضاء، ورغم الاعتراف الكامل بالثانية
فلا تزال الرقابة الدستورية محل جدل في مختلف الدول([23])،
وبالنسبة للدستور الجزائري فإنه لم يواجه مشكلة الرقابة القضائية على دستورية
القوانين في نصوصه لا بالمنع ولا بالإجازة فما هو الحل ؟
إن مبدأ تدرج
القواعد القانونية يقتضي تفاوتا في القوة بحيث يتحتم تقيد كل قاعدة دنيا بالقاعدة
التي تسمو عليها في مدارج السلم القانوني، وينبني على ذلك لزوما تقيد القانون
بالقواعد الدستورية، ولذلك يكون من الضروري والطبيعي خلق آليات لرقابة الدستورية،
ونظرا لمقابلة هذا الأمر بأمر آخر يتعلق بضرورة سيادة البرلمان في المجال التشريعي،
فإن الرأي اتجه في الكثير من الدول إلى تنظيم الرقابة في حدود معقولة، توفق بين
مبدأ إجراءها وبين عدم إقحام القاضي في صميم عمل السلطة التشريعية، وفي نطاق هذه
الحدود قد تختلف أساليب هذه الرقابة بين دولة وأخرى، وقد تقتصر بعضها على الرقابة
السياسية وحدها، ولكن أثبتت التجارب أنها لم تحقق الأغراض المقصودة منها([24])،
ولذلك اعترف الفقه انه من الضروري بسط القضاء لرقابته على دستورية القوانين،
وتختلف هذه الرقابة إلى صورتين رقابة امتناع ورقابة إلغاء، فالرقابة الأولى تقف
عند حد الامتناع عن تطبيق القانون على النزاع المعروض على القاضي، أما الثانية
فتصل إلى حد إبطال القانون بحكم يكون حجة على الكافة كما يلغى القرار الإداري سواء
بسواء .
والقضاء بصفته موئل الحريات الحصين هو الجهة الطبيعة
للرقابة على دستورية القوانين، فهذه الرقابة مما يلتئم مع طبائع الأشياء، ويتفق مع
طبيعة وضيفة القاضي أن يكون هو الجهة التي تنبعث منها الرقابة الدستورية، لأنه
سلطة مستقلة يملك أن يرد أي سلطة أخرى إلى حدودها إذا ما خرجت عن الحدود المرسومة
في الدستور، امتثالا لمقتضى عبارة "مونتسكيو"([25])
الشهيرة: "إن كل إنسان يتمتع بسلطة يسئ استعمالها في العادة إذ يتمادى في
استعمالها حتى يظهر من يوقفه عند حده...والفضيلة ذاتها في حاجة إلى حدود ولضمان
عدم إساءة استعمال السلطة ينبغي أن يكون النظام مؤسس على أن السلطة تحد السلطة
Seul le pouvoir arrête le
pouvoir "
ومن الناحية النظرية لا تقوم أية
عقبة قانونية من شأنها الحيلولة دون رقابة القضاء الجزائري على دستورية القوانين،
ولكن الواقع هو أن القضاء الجزائري لم يسلم بحقه في هذه الرقابة متأسيا بالقضاء
الفرنـسي الذي رفض اختصاصه بالرقـابـة الدستـورية سـواء بطريـق الدعـوى أو الدفع([26])، وعلى العكس من ذلك كانت عدة
مناسبات للقضاء العربي، ومنه القضاء المصري ليبسط رقابته بجرأة على دستورية
القوانين عن طريق الامتناع، ومن ذلك حكما شهيرا لمجلس الدولة المصري وقد صدر هذا الحكم في 10/02/1948 ومما جاء فيه
: " ومن حيث أن محامي الحكومة دفع بان المحكمة لا تملك التصدي لبحث
دستورية القوانين موضوعا وكل ما تستطيعه هو التحقق من توافر الأركان الشكلية
للقانون فإذا ظهر أنها متوافرة فيه فقد امتنع عليها البحث في دستوريته من حيث
مطابقته أو عدم مطابقته للمبادئ المقررة في الدستور وذلك إعمالا لمبدأ فصل السلطات
الذي يقوم على استقلال كل سلطة عن الأخرى في عملها وعدم التدخل فيه أو تعطيله.
ومن حيث انه ليس في القانون المصري
ما يمنع المحاكم المصرية من التصدي لبحث دستورية القوانين سواء من ناحية الشكل أو
الموضوع، أما القول بان هذا التصدي إهدار لمبدأ فصل السلطات بتدخل السلطة القضائية
في عمل السلطة التشريعية بما يعطل تنفيذه فإنه يقوم على حجة داحضة إذ على العكس من
ذلك فإن في التصدي إعمال لهذا المبدأ ووضع للأمور في نصابها الدستوري الصحيح بما
يؤكده ويثبته ذلك أن الدستور المصري وإن قرر المبدأ المذكور ضمنا حين حدد لكل سلطة
من السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية المجال الذي تعمل فيه فقد قرنه بمبدأ
أخر أكده ضمنا وجعله متلازما معه حين قرر أن استعمال السلطات يكون على الوجه
المبين في الدستور فالمبدآن متلازمان يسيران جنبا لجنب ويكمل احدهما الأخر وبغير
ذلك لا تنتظم الحياة الدستورية لأنه يستتبع ذلك أنه إذا أهدرت إحدى السلطات أي مبدأ
من مبادئ الدستور فإنها تكون قد خرجت عن دائرة المجال المحدد لاستعمال سلطتها،
وإذا جاء لها أن تتخذ من مبدأ فصل السلطات تعلة تتذرع بها في إصدارها الدستور
لانتهى الأمر إلى فوضى لا ضابط لها.
ومن حيث انه بعد أن تحدد معنى مبدأ
فصل السلطات بحسب روح الدستور أخذا من دلالة المقابلة بين نصوصه وتفهم مراميها،
يتعين بعد ذلك تحديد وظيفة المحاكم إزاء تعارض قانون من القوانين العادية مع
الدستور نصا أو روحا و ما الذي ينبغي على المحاكم عمله وما تكييف عملها في هذه
الحالة.
ومن حيث أن الدستور المصري إذ قرر
أن السلطة القضائية تتولاها المحاكم قد ناط بها تفسير القوانين و تطبيقها فيما
يعرض عليها من شتى المنازعات ،و يتفرع عن ذلك أنها تملك الفصل عند تعارض القوانين
في أيها هو الواجب التطبيق إذ لا يعدو أن يكون هذا التعارض صعوبة قانونية مما
يتولد من المنازعة فتشملها سلطة المحكمة في التقدير و في الفصل لأن قاضي الأصل هو
قاضي الفرع.
و من حيث أنه لا جدال في أن الأمر
الملكي رقم 42 لسنة 1923 بوضع نظام دستوري للدولة المصرية هو أحد القوانين التي
يجب على المحاكم تطبيقها، و لكن يتميز عن سائر القوانين بما له من طبيعة خاصة تضفي
عليه صفة العلو و تسمه بالسيادة بحسبانه كفيل الحريات و موئلها و مناط الحياة
الدستورية و نظام عقدها، و يستتبع ذلك أنه إذا تعارض قانون عادي مع الدستور في
منازعة من المنازعات التي تطرح على المحاكم و قامت بذلك لديها صعوبة مثارها أي
القوانين هو الأجدر بالتطبيق وجب عليها بحكم وظيفتها القضائية بناء على مقتضى أصول
هذه الوظيفة وفي حدوده الدستورية المرسومة
لها و لا ريب في إنه يتعين عليها عند قيام هذا التعارض أن تطرح القانون العادي و
تهمله و تغلب عليه الدستور و تطبقه بحسابه القانون الأعلى الأجدر بالإتباع و هي في
ذلك لا تعتدي على السلطة التشريعية مادامت المحكمة لا تضع بنفسها قانونا ولا تقضي بإلغاء قانون و لا تأمر بوقف تنفيذه،
و غاية الأمر أنها تفاضل بين قانونين قد تعارضا فتفصل في هذه الصعوبة و تقرر أيها
الأولى بالتطبيق، و إذا كان القانون العادي قد أهمل فمرد ذلك في الحقيقة إلى سيادة
الدستور العليا على سائر القوانين تلك السيادة التي يجب أن يلتزمها كل من القاضي و
الشارع على حد سواء "([27]).
و عليه فإن حق المحاكم في قبول
الدفع بعدم دستورية القوانين و إن كان يبدو للوهلة الأولى فيه بعض المساس بمبدأ
الفصل بين السلطات، و ما يقتضيه من ضرورة امتناع القضاء عن التعرض لأعمال السلطة
التشريعية، إلا أنه عند التعمق نجد أنه عند تعارض قانون عادي مع قانون أساسي يكون
من الواجب على المحاكم تطبيق هذا دون ذاك، و لا يعتبر هذا تدخلا منها في أعمال
السلطة التشريعية، لأنها لا تقرر إبطال القانون ولا تقول بعدم الدستورية بصفة
عامة، بل تقول بعدم إمكانية تطبيقه على المنازعة المعروضة أمامها لتعارضه مع
القـانون الأساسي الـواجب الاحترام. ([28])
ثانيا: اختصاص المجلس الدستوري لا
يمنع الرقابة القضائية:
يرى بعض الفقه أنه طالما أن المشرع
الدستوري أوكل اختصاص الرقابة على دستورية القوانين للمجلس الدستوري، فمؤدى ذلك أن
رقابته هذه تمنع رقابة الهيئـات الأخـرى وخصوصا القضـاء، ويرد الاتجاه الغالب في
الفقه على هذا الرأي بكون رقابة المجلس الدستوري لا تمنع رقابة القضاء بل تكملها و
تسندها، و يستندون في ذلك إلى حجج أهمها أن رقابة المجلس الدستوري سياسية (I) وأنها بالنظر إلى
آلياتها و طريقة تحريكها قاصرة (II) .
I-الطابع السياسي لرقابة المجلس
الدستوري: إن تقييم فعالية رقابة المجلس الدستوري، و كفايتها في التجسيد الفعلي لسمو
الدستور، يفرض التعرض لطبيعة هذه الرقابة: هل هي رقابة سياسية أم قانونية؟ وما
يترتب على هذه التفرقة من آثار تتعلق باستقلالية المجلس الدستوري و مصداقية
أعماله؟
و نظرا لكون الدستور الجزائري لم
يحدد طبيعة هذه الرقابة، و لا تم معالجتها ضمن أحكام النظام الداخلي للمجلس
الدستوري، فإن ذلك أدى إلى انقسام الفقه إلى اتجاهين([29]) رئيسيين: يرى الاتجاه الأول
أن المجلس الدستوري هيئة قضائية و ذلك اعتمادا على مقارنته مع نظيره في
النظم المقارنة التي اعترفت صراحة بالطبيعة القضائية للهيئة المكلفة بالسهر على
احترام الدستور كالنمـسا وإيطاليـا وإسبانيا، كما استـندوا
إلى حجج عـدة منهـا الشكـلية و منها الموضوعية([30])، ومنها أن المشرع الدستوري
بتأسيسه المجلس الدستوري وتكليفه باحترام الدستور فهو قد مال إلى تبني نموذج
القضاء الدستوري Une justice constitutionnelle وقد عبر عن هذا الأستاذ وليد
العقون([31]) قائلا:
« Un instituant un conseil
constitutionnel chargé de veiller au respect de la constitution le
constituant Algérien semble se ranger sur le modèle de justice
constitutionnelle en adaptant ses éléments constitutifs. Ceux-ci s’ordonnent
autour de deux postulats qui se combinent : la position suprême de
l’organe de contrôle (conseil constitutionnel) fondée sur la supériorité de la
norme de référence (la constitution (»
و هذا إضافة إلى أن كون المجلس
الدستوري يتمتع بنفس الضمانات الممنوحة للقضاة كالاستقلالية و الحياد و عدم
إمكانية الجمع بين العضوية في المجلس ووظائف أخرى، و أن الآراء و القرارات التي تصدر
عن المجلس تشبه كثيرا الأحكام و القرارات القضائية، وهذا الاتجاه لو سايرناه سوف
يؤدي بنا إلى نتيجة مفادها عدم اختصاص القضاء بالرقابة على دستورية القوانين،
طالما تم إيكالها للمجلس الدستوري و هو هيئة قضائية، و لكن هذا الطرح ليس مسلما من
غالب الفقه و الذي يؤكد الطابع السياسي لرقابة المجلس الدستوري مستندا إلى حجج و
أسانيد منها أن المشرع الدستوري نظم أحكام المجلس الدستوري في الفصل الأول من
الباب الثالث تحت عنوان الرقابة بينما نظم
السلطة القضائية في الباب الثاني
الفصل الثالث، و هو ما يجعل المجلس الدستوري مستقلا تماما عن السلطة القضائية سوءا
من الناحية العضوية أو المـوضوعية و هذه الملاحظة الشكـلية جعلت البعض يـذهب إلى
القـول بأن رقـابة المجلـس الدستوري لا تنتـمي إلى الـوظيفة القضائية
« le contrôle constitutionnel en Algérie né participe pas de l’exercice de
fonction juridictionnelle » و أن تشكيلة المجلس الدستوري حسب المادة 164
من الدستور يغلب على اختيار أعضائها الطابع السياسي، إذ يعين ثلاثة من بينهم
الرئيس من طرف رئيس الجمهورية، و ينتخب أربعة أعضاء من طرف البرلمان، و لا يغير من
هذه الطبيعة أن عضوين تنتخبهما المحكمة العليا و مجلس الدولة، ضف إلى ذلك أن تحريك
المجلس الدستوري لا يكون بطريقة الدعوى التي يحرك بها القضاء بل بواسطة الإخطار
المحتكر من طرف ثلاثة شخصيات في الدولة فحسب ،و ليسوا هم بالطبيعة أطراف النزاع،
كما أن موضوع الآراء و القرارات الصادرة علن المجلس الدستوري تختلف من حيث موضوعها
مع الأحكام القضائية، إذ تقتصر على التصريح بوجود مخالفة للدستور أم لا فهي لا
تنشئ حقا و لا تقرره، و هو ما يجعل آليات تنفيذها تختلف عن آليات تنفيذ الأحكام و
القرارات القضائية، و يخلص هذا الاتجاه إلى القول بان المجلس الدستوري هيئة سياسية
و رقابته على دستورية القوانين سياسية([32])، و بالتالي فهي لا تتعارض مع بسط
القضاء لرقابته على دستورية القوانين لاختلاف الرقابتين في الأهداف و الوسائل
فتكون احداهما سندا للأخرى لا متعارضة معها ، خصوصا و أن النصوص الدستورية المتعلقة
بالمجلس الدستوري لم تمنع رقابة القضاء.
II-عدم فعالية رقابة المجلس
الدستوري:قصر الدستور حق تحريك المجلس الدستوري على ثلاثة شخصيات في الدولة و هم
رئيس الجمهورية و رئيس المجلس الشعبي الوطني و رئيس مجلس الأمة، و هو ما يجعل
المجلس الدستوري لا يختص تلقائيا، وأن بابه مغلق أمام باقي الأشخاص و الهيئات بما
فيها الهيئات القضائية التي لا يمكنها إخطار المجلس الدستوري إذا تقدم أمامها
الأطراف بطلب أو دفع يرمي إلى فحص دستورية القانون المراد تطبيقه عليهم في
نزاعاتهم المنشورة أمام القضاء، و هذا أحد أوجه القصور في الرقابة الدستورية التي
يقوم بها المجلس الدستوري، و الوجه الآخر أنه لا يوجد ما يلزم الأشخاص الثلاثة
المختصون بالإخطار بتحريك هذه الرقابة، اللهم إلا فيما يتعلق ببعض الحالات التي
يوجد فيها نص خاص يلزمهم بالإخطار كحالة القوانين العضوية و بعض المعاهدات
الدولية، و هو ما يجعل الرقابة الدستورية التي يقوم بها المجلس الدستوري تخضع
لأهواء الشخصيات الثلاثة السابقة ، و يؤكد قصور هذه الرقابة في حماية الشرعية
الدستورية من انحراف السلطة التشريعية و يجعل بالتالي مبدأ تدرج القوانين و مبدأ
سمو الدستور بدون معنى([33])، و يفرض بالتـالي البحث عن آليات
أخرى كفيلة بتحقيق هذا الهدف و يأتي على رأس هذه الآليات الرقابة القضائية، و معنى
ذلك كله أن رقابة المجلس الدستوري لا تمنع رقابة القضاء بل بالعكس هي تؤكدها نظرا
لطابعها السياسي و لقصورها عن كفالة سمو الدستور.
والخلاصة أن كل الأسانيد والحجج تؤكد
أن القاضي الجزائري مختص للفصل في دستورية القوانين، والقول بغير ذلك يؤدي للقول
بأن القانون أسمى من الدستور وينقلب بالتالي الأساس الطبيعي للترتيب، ويؤدي
بالنتيجة لإخضاع السلطة التأسيسية إلى رغبة السلطة التشريعيةK وهو ما عبر عنه الفقيه ربير([34]):
"إن غياب الرقابة القضائية يؤدي إلى النتيجة الغريبة التالية و هي تكريس
سيادة القانون على الدستور في حين أن السلطة التشريعية مؤلفة من مجموعة هيئات
أوجدها الدستور مع غيرها من السلطات الأخرى و أنها مثل هذه السلطات خاضعة إلى
الميثاق الأساسي" ومما يؤكد هذا الطرح ما قضت به المادة 116 من
قانون العقوبات الجزائري التي نصت على أنه: "يعاقب بالسجن المؤقت مرتكبو
جريمة الخيانة من خمس إلى عشر سنوات:
1-القضاة و ضباط الشرطة القضائية الذين يتدخلون في
أعمال الوظيفة التشريعية سوءا بإصدار قرارات تتضمن نصوصا تشريعية بمنع وقف تنفيذ
قانون أو أكثر أو بالمداولة لمعرفة ما إذا كانت القوانين ستنشر أو تنفذ " فهذه المادة تمنع تدخل القضاء في اخـتصاص السلـطة
التشريعية، سواء بإصدار نصوص تشريعية أومنع أو وقف تنفيذ القوانين أو بالمداولة
التي تتعلق بمسالة نشر القانون أو تنفيذه، وهي الأفعال التي لا يندرج ضمنها قيام
القاضي بمراقبة دستورية القانون، إذ منتهاها أن يمتنع عن الفصل في النزاع بواسطة
هذا القانون إذا وجده مخالفا للدستور ،ويفصل في النزاع باعتماد قواعد قانونية أخرى([35]).
[1] -ديندار
شيخاني، الرقابة على دستورية القوانين، Dasin ORG، جريدة الكترونية عامة، www.google.fr، و سامي جمال الدين، المرجع السابق، ص 161 و ما بعدها.
[6] -المحكمة
الدستورية العليا، حكم في 03/04/1976، في الدعوى رقم 11، السنة 05 القضائية نقلا
عن سامي جمال الدين، المرجع السابق، ص 164
[7] -المحكمة
الاتحادية العليا حكم سنة 1803، قضية ماربوري ضد ماديسون نقلا عن خليل جريج،
المرجع السابق، ص 177 .
[9] -هشام علي
صادق، مركز القانون الأجنبي أمام القضاء الوطني، دراسة مقارنة، منشأة المعارف
الإسكندرية، 1968، ص 87 و ما بعدها.
[10] -المحكمة
العليا، ملف 31290، قرار بتاريخ 21/05/1984 قضية أرملة ع ضد ب ج، المجلة القضائية،
عدد 01 /1990، ص 154، و كذلك الملف 31469، قرار بتاريخ 21/05/1984 قضية شركة س
ممثلة بمديرها ضد ح ب ع، المجلة القضائية نفس العدد، ص 157 .
[11] -المحكمة
العليا،ملف رقم 35780،قرار بتاريخ 26/11/1984،قضية ن هـ م و ز م ضد س ب،المجلة
القضائية،العدد01/1990 ص 172.
[17] -فتحي منصور
عبد الصمد الفيتوري، مدى اختصاص المحكمة العليا بالرقابة الدستورية في ضوء أحكام
القانون رقم 17 لسنة 1423، www.almiezon.Net، ص 4.
[18] -محكمة مصر
الابتدائية، حكم صادر بتاريخ 01/05/1941، نقلا عن عصام عفيفي عبد البصير المرجع
السابق، ص60.
[19] -محكمة
الاستئناف، حكم بتاريخ 30/05/1943 و أنكرت فيه حق المحاكم في فحص رقابة دستورية
القوانين، نقلا عن عصام عفيفي عبد البصير، المرجع نفسه ص 61.
[20] -محكمة القضاء
الإداري، حكم بتاريخ 10/02/1948 القضية رقم 96 لسنة 01 ق، مجموعة أحكام محكمة
القضاء الإداري بمجلس الدولة، السنة الثانية، نقلا عن عصام عفيفي عبد البصير،
نفسه، ص 61.
[21] -أنظر: سعيد
بوالشعير، القانون الدستوري و النظم السياسية المقارنة، ديوان المطبوعات الجامعية،
الجزائر، 1988، ص 35 و ما بعدها، و حماد محمد شطا، الأصول الإسلامية للقانون
الإداري، توزيع دار الكتاب الحديث، ص 439 و ما بعدها، و سعيد بوالشعير، النظام
السياسي الجزائري، دار الهدى، ص 198 و ما بعدها.
[22] -سعيد بوالشعير
، نفسه، ص 36، و إبراهيم عبد العزيز شيحا، الوجيز في النظم السياسية و القانون
الدستوري، دراسة تحليلية للنظام الدستوري اللبناني، الدار الجامعية، ص 237 و ما
بعدها..
[26] -عبد السلام
ذهني بلا، مجلس الدولة و دستورية القوانين، مجلة مجلس الدولة، السنة الأولى، العدد
الأول، يناير 1950، ص 83.
[27] -مجلة الدولة
المصري، قرار بتاريخ 10/02/1948، نقلا عن خليل جريج، المرجع السابق، ص 181.وقد
أثبتناه كاملا لأهمية ودقة تحليله وحسن صياغته ، ولا غرابة فقد صدر هذا الحكم تحت
رئاسة العميد عبد الرزاق السنهوري.
[28] -أنظر، معوض
عبد التواب، الدفوع الإدارية، دار الكتاب الحديث، ص 715 و مال بعدها، و محمود سعد
الدين الشريف، النظرية العامة الضبط الإداري، المرجع السابق، ص 62، عبد الهادي
عباس، الاختصاص القضائي و إشكالاته ، الفكر القضائي للنشر، أديب استانبولي، ط 1،
1983، ص 138.
و طه طيار، المجلس الدستوري الجزائري، تقديم و حوصلة لتجربة قصيرة، مجلة
إدارة، عدد2/96، ص 35 و ما بعدها
[30]- Yelles Chaouch Bachir, Le conseil
constitutionnel en Algérie du contrôle de constitutionalité a la créativité
nominative,O P U, p 11. et s
-و ديباش
سهيلة، المجلس الدستوري و مجلس الدولة، المرجع السابق، ص 37
- Walid
Laggoun, op cit, p 5 et s.
[33] - و مما يدل
على كل هذا الوضع تلك الترسانة من القوانين و اللوائح المخالفة للدستور، و نذكر
منها مرسومين رئاسيين مخالفين بصورة صارفة للدستور:
-المرسوم الرئاسي: 99/39-2 المؤرخ في 27 / 10 / 1999
المتضمن إلغاء المرسوم الرئاسي رقم 89/ 40 المتعلق بالوظائف التي هي من اختصاص
رئيس الجمهورية والمرسوم التنفيذي رقم 98/ 307 الذي يحدد صلاحيات التعيين لرئيس
الحكومة ،و المرسوم الرئاسي - 99/240
المتعلق بالوظائف المدنية والسياسية في الدولة – انظر الجريدة الرسمية رقم 76
الصادرة في 32/ 10/ 1999 .
[35] - انظر القضاء
والإصلاحات – الندوة الوطنية للقضاء – نادي الصنوبر أيام 23/24/25 فيفري 1991 – ص
133 وما بعدها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق