سلطات القاضي عند فحص دستوريه القوانين في القانون الجزائري

0
سلطات القاضي عند فحص دستوريه القوانين
 بعد أن توصلنا إلى انه ليس أمام القاضي الجزائري إلا أن يقرر اختصاصه برقـابة دستورية القوانين، لاندراج ذلك ضمن وظيفته الطبيعية المتمثلة في تطبيق القانون على النزاعات المروضة أمامه، فإن تم الدفع أمامه بمسألة الدستورية ولم يتمسك باختصاصه بالرد عليها فإنه يكون منكرا للعدالة أو مخلا بحقوق الدفاع، وبالطبع فإن القاضي لا ينتظر أن يثير المتقاضين مخالفة القانون المراد تطبيقه على النزاع للدستور، بل عليه إثارته تلقائيا فكل المسائل المتعلقة بانسجام القوانين وخضوع لدنى منها للأعلى وسمو الدساتير هي من النظام العام، لاندراجها ضمن قواعد المشروعية الحامية للحقوق والحريات. ومادام أن القاضي قد يصل لكون القانون غير دستوري، وبالتالي فالقاضي يحكم بذلك فما هي أثار هذا الحكم؟ وهل يمكن للقاضي تطبيق النصوص الدستورية مباشرة للفصل في النزاع ؟ وبالتالي هل يطبقها ويفسرها مثلا يفعل مع النصوص التشريعية العادية ؟
إن الحكم الصادر بعدم دستورية قانون ما يترتب عليه استبعاده عن حكم النزاع (الفرع الأول) وإمكانية التطبيق المباشر للنص الدستوري من اجل الفصل في النزاع (الفرع الثاني).
الفرع الأول
استبعاد القانون المخالف للدستور عن حكم النزاع
 يفرض مبدأ تدرج القواعد القانونية أنه إذا كان القانون مخالفا للدستور كان باطلا، وكان على القاضي أن يتمتع عن تطبيقه طالما كان مخالفا  للقاعـدة الدستورية من الناحية الشكـلية أو الموضوعية، وهذا هو الفارق بين هذا النوع من الرقابة القضائية أي الرقابة عن طريق الدفع أو الامتناع والرقابة عن طريق الدعوى، التي قد تصل نتيجتها إلى أحد إلغاء القانون غير الدستوري، وهو ما يعد بحق تدخلا في المجال المخصص للسلطة التشريعية، ولذلك لم تلق إقبالا ،ولا لا تمارس إلا بنص في الدستور يقررها، عكس رقابة الامتناع التي لاقت اهتماما واسعا، فهي تمارس بدون نص لاندراجها ضمن وظيفة القضاء في تطبيق القانون، ولا تعد خرقا لمبدأ الفصل يبين السلطات.ولذلك فالقاضي الجزائري إذا تبين له مخالفة القانون للدستور لا يمكنه إلغاء القانون ولا وقف تنفيذه (أولا) بل عليه الامتناع عن تطبيقه بصدد ذلك النزاع  فقط (ثانيا)
أولا : القاضي لا يلغي القانون المخالف للدستور:
هناك من الدول من كرست في دستورها الرقابة القضائية الدستورية للقوانين عن طريق الدعوى، إذ شكلت محكمة خاصة أو أعلى محكمة في البلاد ومنحتها الاختصاص بالحكم ببطلان القانون المخالف للدستور، وبالتالي إلغاء ذلك القانون وجعله في حكم العدم، ويكون لحكمها حجية في مواجهة الجميع بحيث لا يجوز الاستناد عليه في المستقبل([1])، ومن الدول التي أخذت بهذا الأسلـوب الرقابي نجد تركيا، تشيكوسلوفاكيا، سويسرا، أسيا، النمسا وإيطاليا، ومن الدول العربية نجد مصر، سوريا، ليبيا والسودان، والحقيقة أن الإلغاء يعد تدخلا في عمل السلطة التشريعية، التي لها وحدها حق إلغاء التشريع، فالقضاء لا يختص بهذا الدور إلا بموجب نص خاص يمنحه هذا الاختصاص، وفي غياب مثل هذا النص لا يكون أمام القاضي الذي يعرض للرقابة على الدستورية المثارة أمامه بدفع إلا أن يقرر إما دستورية القانون وتطبيقه للفصل في النزاع ([2])، أو عدم دستوريته واستبعاده من حكم ذلك النزاع. ونظر لاندراج هذا الأمر ضمن وظيفته في تطبيق القانون وتفسيره -كما تبين سابقا – فإن المحاكم بمختلف أنواعها ودرجاتها تختص برقابة دستورية القوانين غير الدستورية، والفصل في النزاع من خلال القواعد القانونية الأخرىK وخلافا لذلك ، فقد ذهبت محكمة النقض المصرية إلى حد إلغاء القانون الذي تبين لها عدم دستوريته دون وجود نص يمنحها هذا الاختصاص وذلك في حكم لها سنة 1972 وهو القانون رقم 83 لسنة 69 المتعلق بإعادة تشكيل الهيئات القضائية والذي كان قد عزل استنادا له 169 قاضيا فيما يعرف بمذبحة القضاء([3]).
ثانيا: إمكانية تطبيق ذات القانون في نزاعات أخرى:
 خلافا للحكم  الصادر بإلغاء القانون المخالف للدستور، والذي يتمتع بحجية مطلقة في مواجهة الكافة بالنسبة للأنظمة التي اعتمدت الرقابة الدستورية بطريق الدعوى، فإن الحكم الصادر بعدم دستورية قانون ما عند الفصل في الدفع المثار أمام القاضي أثناء فصله في النزاعات المعروضة عليه له حجية نسبية، بحيث يتوقف أثره على النزاع الذي تم إثارة الدفع بعدم الدستورية في إطاره، دون باقي النزاعات التي لا تنصرف حجية الحكم إليها، وبالتالي فلا حجية له على باقي القضاة، بل ولا على باقي النزاعات المعروضة على ذات القاضي، إذ أن حجيته نسبية تتوقف على النزاع المعروض على القاضي، فيمكنه في نزاع آخر أن يقرر دستورية ذلك القانون ويطبقه عليه، وهو ما قررته محكمة تلا- الجزئية- المصرية في جانفي  926 ([4])إذ جاء فيه :"اتفق علماء القوانين الدستورية حتى  الذين مذهبهم أن للمحاكم حق البحث في دستورية القوانين...أنهم مع اعترافهم بحق المحاكم في تقدير دستورية القوانين لا يخولونها حق إلغاء هذه القوانين غير الدستورية عملا بنظرية فصل السلطات بل كل ما للمحاكم هو أن تمتنع عن تنفيذ القانون لعدم دستوريته، وبدون أن يغير ذلك من قيام القانون المذكور واحتمال أن تحكم محاكم أخرى بدستوريته" فالحكم في الدفع بعدم الدستورية أيا كانت طبيعته غير ملزم لأية محكمة أخرى، ولا حتى لنفس المحكمة التي أصدرته، وهو ما يطلق عليه الفقه (نسبية الأحكام الصادرة في الدفوع بعدم الدستورية) ([5]) وبالتالي فالقانون قد يعتبر في آن واحد دستوريا وتطبقه بعض المحاكم، وغير دستوري تمتنع عن تطبيقه محاكم أخرى، وهذه إحدى الانتقادات الموجهة للرقابة الدستورية بطريق الدفع، إذ أن نسبية الأحكام الصادرة في هذا الإطار، قد تخلق جوا من عدم الثقة في أحكام القضاء وعدم استقرار المراكز القانونية، لكن هذا المأخذ يصدق أيضا بصدد أي مسألة يفصل فيها القاضي نظرا للحجية النسبية لأحكام القضاء، وهو ما ينتج عنه – بل وقع فعلا – إمكانية اختلاف هذه الأحكام بصدد نفس المسألة بل نفس القاضي قد يصدر حكمين متناقضين في نزاعين لهما نفس الموضوع والسبب، فهذا المأخذ لا يجوز أن يوجه إلى بسط القضاء رقابته على دستورية القوانين، بل بالنسبة لكل أحكام القضاء، ويكفي للتدليل على ذلك الإشارة إلى تناقض القضاء بمختلف درجاته حتى المحكمة العليا ومجلس الدولة، حول مسألة شهر عريضة الدعوى العقارية، فبعضهم مع إلزامية الشهر كقيد على طائفة من الدعاوى العقارية، والآخرون يرون خلاف ذلك، ونفس الشيء بالنسبة لدعاوى الحيازة والتقادم المكسب فالقضاء على خلاف شديد حوله.
وبعد هذا، فإن هذا الأخذ مردود عليه، لكون القانون أوجد آلية الغرف المجتمعة للمحكمة العليا ومجلس الدولة لتوحيد الاجتهاد القضائي، إذ يكون حكمها حينذاك ملزما لجميع الجهات القضائية .
الفرع الثاني
التزام القاضي بتطبيق النص الدستوري للفصل في النزاع
تقود النتيجة السابقة المتعلقة بضرورة استبعاد القانون المقضي بعدم دستوريته عن حكم النزاع، إلى تقرير نتيجة أخرى وهي ضرورة تطبيق الدستور للفصل في النزاع، فهذا مقتضى مبدأ تدرج  القوانين، الذي يفرض على القضاء تطبيق القانون الأعلى في المرتبة عند تعارض التشريعات المختلفة في الدرجة في موضوع معين، فإذا تعارض مرسوم مع قانون وجب تطبيق القانون، وإذا تعارض القانون مع المعاهدات وجب تطبيق المعاهدة ،و بالمثل فإذا تعارض القانون أو المعاهدة مع الدستور وجب تطبيق الدستور،  ومثل هذه  النتيجة قد تبدو وطبيعته إذ اعتبرنا أن الدستور يندرج ضمن مفهوم القانون، وهو الرأي المتفق عليه فقها وقضاء وتشريعا، وبالطبع سيصنف ضمن القانون العام لا القانون الخاص، وهو ما يجعله يتعلق بالنظام العام،وبالتالي يجب مراعاته دائما تحت طائلة البطلان، لكن دون تجسيد هذه النتيجة مصاعب عدة تتعلق بمدى صلاحية النص الدستوري للتطبيق المباشر (أولا) ومدى اختصاص القاضي بتفسيره ووسائله في ذلك (ثانيا)
أولا: التطبيق  المباشر للنص الدستوري:
لا شك أن اعتبار الدستور مصدرا للمشروعية باعتباره القانون الأساسي في الدولة، سيقود إلى اعتبار القواعد التي يتضمنها قواعد قانونية يتوجب على القاضي تطبيقها، ويختلف الوضع بين القاضي الجنائي (I)والقاضي العادي (II).
I-بالنسبة للقاضي الجزائي: إن القاضي الجزائري إذا تقرر لديه أن القانون الذي توبع به المتهم غير دستوري، عليه أن يحكم بالبراءة طبقا لمبدأ الشرعية، الذي يقضي بأنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص تشريعي صادر عن البرلمان، وطالما قرر القاضي عدم دستوريته وامتنع عن تطبيقه، فإنه لم يبق لديه أساسا قانونيا للمتابعة، وتوجب عليه تبرئة المتهم([6])، وهو ما كرسته محكمة النقض المصرية في حكم لها إذ حكمت ببراءة محافظ الجيزة الأسبق عبد الحميد حسن على سند من قضائها الذي امتنعت فيه عن تطبيق قانون الكسب غير المشروع، لقيام الإدانة فيه على قرائن افترضها المشرع من واقعة زيادة ثروة الموظف العام مع عجزه عن التدليل على أسباب هذه الزيادة، بما يخالف افتراض البراءة في المتهم الذي نص عليه الدستور([7]).
ويضاف إلى ذلك، أن القاضي الجنائي يعتمد على النص الدستوري عند قيامه بتفسير النصوص الجزائية، حتى يكون مضمونها مطابقا للدستور، ولا يقتصر الأمر على مجرد تحقيق هذه المطابقة بل يتجاوزه إلى تحقيق مصداقية التفسير التي تعبر عن إرادة المشرع الواعية المتطورة، فالحقوق والحريات تستقي حمايتها من الدستور ذاته، وما التشريع إلا منظما لهذه الحماية، وعلى ذلك فمن المقرر أن القاضي حين يطبق النصوص التشريعية يجب عليه تفسيرها وفق للمعنى المطابق للدستور طالما أن نصوص التشريع تتسع لذلك([8])، فإذا خلا نص تشريعي من ذكر ضمان أورده الدستور، فلا يفسر هذا الخلو بعيدا عن النص الدستوري بل يجب تطبيق نصوص الدستور مباشرة لتوفير هذا الضمان([9])، والقاضي الجنائي يتعين عليه في تفسيره لنصوص التجريم التي استوحاها المشرع من الدستور، بالروح التي أملت على المشرع الدستوري حماية نوع من القيم الدستورية، التي اتخذها المشرع العادي محلا للتجريم، ذلك أن الدستور يقرر التجريم كأسلوب لحماية بعض الحقوق والحريات([10])، إذ ينص في بعض نصوصه صراحة على تجريم الاعتداء على نوع من الحقوق والحريات أو غيرها من القيم الدستورية، من مثل المادة 25: "يعاقب القانون على المخالفات المرتكبة ضد الحقوق والحريات وعلى كل ما يمس سلامة الإنسان البد نية والمعنوية " ففي مثل هذه الحالة يستعين القاضي- كما سبق الذكر- في تفسير نصوص التجريم بهذه النصوص الدستورية.
II-بالنسبة للقاضي العادي: والذي عليه التزام بالفصل في النزاع وإلا كان منكرا للعدالة،وطالما انه استبعد القانون عن حكم النزاع فماذا سيطبق؟
 بالطبع إنه سيطبق أحكام الدستور باعتبار كونها قواعد قانونية ملزمة، ولكن هل أحكام الدستور صالحة للتطبيق المباشر من طرف القاضي للفصل في النزاعات المعروضة أمامه؟
يجب التمييز في هذا الصدد بين نوعين من القواعد الدستورية، يتمثل النوع الأول في النصوص الدستورية التي تقرر قاعدة قانونية تصلح للتطبيق المباشر، وهي النصوص التي تقرر حقوقا مباشرة للأفراد، مما يجعلها تصلح أساسا للفصل في النزاع المعروض على القاضي، ففي هذه الحالة لا يكون تطبيق النص الدستوري معلقا على نص قانوني أو تنظيمي يكفل تطبيقه ،ومن ذلك نص المادة 17 من الدستور التي تنص على:"الملكية العامة هي ملك المجموعة الوطنية وتشمل باطن الأرض والمناجم والمقالع والموارد الطبيعية للطاقة والثروات المعدنية الطبيعية والحية في مختلف مناطق الأملاك الوطنية البحرية والمياه والغابات كما تشمل النقل بالسكك الحديدية والنقل البحري والجوي والبريد والمواصلات السلكية واللاسلكية وأملاكا أخرى محددة في القانون" فإذا تعلق النزاع بواحد من الأملاك العامة المذكورة في نص هذه المادة فإن القاضي بغض النظر عن القانون أو التنظيمات، سوف يمكنه اعتماد نص هذه المادة مباشرة للحكم بمقتضاه، وإبطال كل تصرف يخالف الطبيعة العامة لهذه الأملاك، بحيث لا يجوز التصرف فيها ولا تملكها بالتنازل عنها أو بالتقادم ولا ترتيب أي حق عيني  عليها. ونص المادة 38/ 3 :" لا يجوز حجر أي مطبوع أو تسجيل أو أية وسيلة أخرى من وسائل التبليغ و الإعلام إلا بمقتضى أمر قضائي" فهذه المادة تصلح أساسا للفصل في النزاع المتعلق بقيام الإدارة بحجر أيا من الأشياء المذكورة فيها، بحيث يبطل القاضي ذلك الحجر طالما تم بدون أمر قضائي.ونص المادة 143 : " ينظر القضاء في الطعن في قرارات السلطات الإدارية " فيعتمد القضاء على هذه المادة لتقرير اختصاصه دون حاجة إلى نص قانوني آخر، وغير ذلك من النصوص الدستورية  التي يطبقها القاضي مباشرة للفصل في النزاع لكونها تقرر حقوقا أو حريات للأفراد وجاءت واضحة قابلة للتطبيق ولم تعلق على قانون أو تنظيم لتطبيقها. وبالمثل فإنه يحق للمتقاضين حينئذ تأسيس طلباتهم ود فوعهم مباشرة على نص أو مبدأ دستوري، إذا كان هذا الأخير هو مصدر الحق المطالب به ([11]).
 وأما النوع الثاني  فهو النصوص الدستورية التي لا يمكن تطبيقها إلا بعد صدور تشريع أو تنظيم يكفل لها القابلية للتطبيق، ففي هذه الحالة يلتزم القاضي بالفصل في النزاع بالرجوع لمصادر القانون الأخرى، التي منها المبادئ العامة للقانون حيث قد يستخلصها من ديباجة الدستور ذاته أو من المصادر المشار إليها في نصوصه، كمبادئ التشريعية الإسلامية والمعاهدات الدولية، إضافة إلى ما ذكرته المادة الأولى من القانون المدني  كالعرف ومبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة، إذ في هذه الحالة يكون القاضي أمام حالة انعدام التشريع، وهو ما يجعله يلجأ إلى مصادر القانون الأخرى، ومثال ذلك تلك النصوص الدستورية التي تحيل على القانون أو التنظيم مباشرة كنص المادة 38/2 :"حقوق المؤلف يحميها القانون" و نص المادة 3/3:" يحدد القانون شروط وكيفيات إنشاء الجمعيات" ففي هذه النصوص الدستورية ومثيلاتها، يكتفي الدستور بوضع المبدأ محيلا للقانون لتنظيمه،وبالتالي فلا تصلح مثل هذه النصوص للتطبيق المباشر، ولذلك يلجأ القاضي حينئذ للمصادر الأخرى للقواعد القانونية حسب التدرج المشار إليه في الفصل الأول.
ثانيا: سلطة القاضي في تفسير النص الدستوري:
 لا شك أن تفسير القواعد القانونية لتحديد مدلولها الذي يتبادر من ألفاظها أو فحواها هو الخطوة الأولى نحو تطبيق هذه القواعد على الوقائع التي تحكمها تطبيقا صحيحا عادلا([12]).والقواعد الدستورية طالما كانت قواعد قانونية فإنها لا تحيا بمعزل عن القواعد القانونية الأخرى، بمعنى أن جوهر القواعد الدستورية وغاياتها لا يتم التعرف عليها بعيدا عن النظريات القانونية التي تنمو وتزدهر في نطاق فروع القانون الأخرى، طالما يوجد لم يوجد تعارض بين نتائج هذه النظريات مع جوهر القاعدة الدستورية وغايات القانون الدستوري، ومفاد ذلك أنه لا تعارض بين قواعد تفسير القانون بوجه عام وقواعد تفسير القانوني الدستوري بوجه خاص، فكافة نظريات وقواعد التفسير تنطبق في المجال الدستوري ، وإن كان هذا لا يتعارض مع وجود قواعد أو نظريات خاصة بالقانون الدستوري ، ومنها قواعد التفسير، ومعنى ذلك أن تفسير القانون الدستوري لا يثير أي إشكالية فالقاضي يختص به مثلما يختص بتفسير أي قاعدة قانونية أخرى([13])، ويتبع في ذلك نفس قواعد ونظريات التفسير التي يتبعها بصدد تفسير أي قاعدة أخرى، ولكن نظرا لكون مسألة تفسير القواعد الدستورية لها علاقة بمسألة بسط رقابة القاضي على دستورية القوانين، فإنها خلافا للقواعد العامة في التفسير تثير بعض الحذر إذ لن تكون يد القاضي طليقة هكذا بحيث يستطيع أن يقرر بمحض اجتهاده ما إذا كان التشريع متوائما مع  الدستور أو متعارض معه، بل لا بد من رعاية قواعد ثابتة وضوابط أكيدة تضمن حسن التزامه لدائرته، وتكفل سداد خطوه، ولذلك يثور التساؤل هل للقاضي أن يتفحص الدستور تفحصا يدخله اجتهادا كبيرا بحيث يستطيع  تحكيم المصادر الدستورية الأخرى غير الوثيقة الدستورية كالعرف الدستوري ؟ أم يقتصر على مجرد فهم النصوص؟ وبصيغة أخرى هل يستطيع القاضي مراقبة التشريع من حيث مخالفته لعبارة النص الدستوري فقط؟ أم يستطيع كذلك مراقبته حتى لو خالف روح تلك النصوص أو خالف عرفا دستوريا أو مبدأ عاما غير مكتوب؟
من المسلم به في النظم التي تجير رقابة دستورية القوانين أن للقاضي مراقبة نص التشريع، من حيث مخالفته لعبارة نص الدستور، ولكن يختلف بعد ذلك في ما إذا كان يمكن مراقبة مخالفة التشريع لروح الدستور ومبادئه العامة المستقاة من ديباجته أم لا، فذهب قول إلى الجواز حتى في هذه الحال استنادا إلى الانحراف الذي يحتمل أن يقع فيه المشرع، ولكن دون إعمال هذا الرأي مصاعب جمة تظهر من خلال دراسة موضوع التفسير القضائي للنصوص الدستورية ([14]).
 لا شك أن القاضي يختص بتفسير النصوص الدستورية ما دام هو المختص بتطبيقها أو معاينة مدى مطابقة التشريع لها، ومما يؤكد ذلك أن الدستور سكت عن تحديد جهة محددة لتفسير النصوص الدستورية. على أنه رغم كون القواعد الدستورية هي قواعد قانونية فإنه قد تختلف طريقة تفسيرها عن طرق الفقه المعتادة  لتفسير القواعد القانونية الأخرى في البحث عن النوايا والجري وراء البواعث والرجوع للأعمال التحضيرية مثلا، بل ينبغي أن تستهدف تفسير النصوص الدستورية اعتبارات سياسية وأخرى اجتماعية واقتصادية في ظل المصلحة العليا للأمة ، لأن الدستور وثيقة لتنظيم كل هذا فلا يكيفن القاضي النصوص الدستورية بمعاييره وضوابطه المعتادة في تفسير النصوص الأخرى، بل يجب عليه إستيحاء أفكار وضوابط مختلفة كثيرا وان يستصحبها دائما بما لا يجعل الدستور أداة جامدة معطلة والأمة تتطور، أو يجعله آلة صماء لا تجاري الأوضاع الجديدة و أهداف الأمة، وهذا معناه انه على القاضي  أن لا يفرض سلطانه على المشرع تحت ستار دستورية القوانين فتصير الدستورية هذه وسيلة لتسلط القضاة على المشرع ذاته. وهذا معناه أن تفسير الدستور يختلف عن التفاسير الأخرى، لأنه وإن كان  طائفة نصوص قانونية إلا أن تطبيقها الكثير ومرتعها الخصيب هو البيئة البرلمانية ورئيس الدولة، فهم الذين يتعاملون معه ويضطرون لمواجهة مشكلاته كثيرا ويصدرون التشريعات وفق أحكامه، بينما يقتصر القاضي على فحص دستورية القانون إذا ما أثير أمامه دفعا بعدم الدستورية فإنه سيتولى تفسير النصوص الدستورية المثار مخالفة القانون لها، ومما يفرض على القاضي أن لا يتوسع في التفسير والانطلاقة فيه، وان لا ينصب نفسه وصيا حقيقيا على المشرع لا مجرد حام لحقوق الأفراد وحرياتهم المكفولة دستوريا، فالقضاء وإن كان حقا حامي الحريات والحقوق فإنه ليس خصما للمشرع، ولا يجوز له أن يتولى تفسير النصوص الدستورية بما يسمو به على حقيقة وضعه ويعيد النظر في العلاقة بين السلطات العامة المبنية على الفصل والتعاون وليس الخضوع والتبعية .
وعلى هذا فإن القانون يكون غير دستوري إذا ما خالف نصا في الدستور أو مقتضى نص أو خالف المبادئ العامة المستقاة من ذات النصوص كذلك، وهنا ينبغي أن نحدد المقصود بروح الدستور([15]) لأن الإطلاق في استعمال كلمة روح هذه سوف تؤدي إلى توسع كبير وغير مقبول . إن المقصود من روح الدستور هو المعاني 


[1] - علي حسين نجيب ، المرجع السابق ، ص 56.
[2] - محمد رأس العين ، المرجع السابق ، ص 169.
خليل جريج ، المرجع السابق ، ص 170 وما بعدها .
[3] - محكمة النقض المصرية ، حكم عام 1972 نقلا عن شفيق إمام ، بعد حكم محكمة  النقض الرقابة على دستورية القوانين ، إلى أين مركز الدراسات السياسية والإستراتجية ، www.ahram.org.
[4] - علي حسين نجيب ، نفسه ، ص 21.
[5] - علي حسين نجيب ، نفسه ، ص 23 .
[6] - انظر ، عاصم وعفيفي عبد البصير ، مبدأ الشرعية الجنائية ، المرجع السابق ، ص 63 وما بعدها ، وأحمد فتحي سرور ، القانون الجنائي الدستوري دار النهضة العربية ، ط2001 ، ص 165.
[7] - انظر شفيق إمام ، بعد حكم محكمة النقض الرقابة على دستورية القوانين إلى أين ؟ مركز الدراسات السياسية والإستراتجية . www.ahram.org
[8] - عصام عفيفي عبد البصير، المرجع السابق ص 40 وما بعدها ، وأحمد فتحي سرور، الحماية الدستورية للحقوق والحريات، دار الشروق ، القاهرة ، 1999. ص 413 وما بعدها. 
[9] - lois Favoreu , op. cit. , p 201 est.
[10] - عصام عفيفي عبد البصير ، المرجع السابق ، ص 66  ، وأحمد فتحي سرور ،القانون الجنائي الدستوري ، المرجع السابق ص 171 وما بعدها
[11] - انظر مجلس الشورى اللبناني ، قرار في 16 /02/1956 رقم 125 منشور في خليل جريج ، المرجع السابق ، ص 61 و المحكمة الدستورية العليا المصرية ، طعن رقم 518 لسنة 18 القضائية قرار في 16 /05/1978 المنشور في معوض عبد التواب الدفوع الإدارية ، المرجع السابق ص 715 ، وقرار المحكمة الإدارية المصرية في 29 /06/ 1957 و 12 /07 /1957 رقم 624 من مجموعة أبو شادي نقلا عن خليل جريج ، المرجع السابق ، ص 62 .
[12] - كمال عبد الواحد الجوهري ، مرجع سابق ، ص 306.
[13] - فوزي أوصديق ، الوافي في شرح القانون الدستوري ، الجزء 01 ، ص 123 وما بعدها
[14] - إبراهيم ، إبراهيم شحاتة ، سلطة القاضي عند فحص دستورية القوانين ، مجلة مجلس الدولة ، ص 400.
[15] - إبراهيم إبراهيم شحاتة ، المرجع السابق ، ص 400 وما بعدها ، وعلي حسين نجيب ، المرجع السابق ، ص 71 وما بعدها . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظه © القانون والتعليم

تصميم الورشه