بيع الإقالة في القانون الجزائري

0

بيع الإقالة ج1
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
سؤال: كثر التعامل في مجتمعنا بما يسمى بيع الإقالة أو بيع الخيار، ولا يخفى عليكم ما تنطوي عليه عقدة هذا البيع من مفاسد جمة، أصبح المجتمع يعاني من ويلاتها، فكم من محتاج لزت به حاجته إليه ورجا أن يجد فيه المخلص من مشكلته، فإذا به يخسر الطارف والتليد، ويبقى عائلا مسكينا بسبب استغلال المشترى وجشعه الذي لا يرق معه لحالة مضطر، وقد وجدنا من الناس من يروج لهذه المعاملة محاولا أن يضفي عليها الصفة الشرعية للبيوع، مستنكراً ما يقوم به المصلحون من النهي عنها بحجة أنه لم يتفق العلماء على منع هذا البيع، فجم غفير منهم أباحه كما تشهد به آثارهم وفتاواهم، ومن قلد عالما كان سالما، على أنه جرى العمل به بين ظهراني أئمة العدل وعلماء الإسلام، فلو كان محجورا لشددوا فيه، ومن هؤلاء من ينزع في الاستدلال لإباحته منزعا عجيباً، وذلك أنه يزعم أنه تناط به منفعة دينية ودنيوية، وهي أن فيه مندوحة للناس في حاجتهم عن القروض الربوية التي تقدمها مؤسسات الأموال مشروطة بالربا الصريح، فكانت إباحته -لهذا السبب- أمراً ضرورياً يقتضيه النظر في مصالح المسلمين، وقد أثرت هذه الشبهات في نفوس كثير من عوام الناس الذين لا يفرقون بين التمر والجمر ولا بين الذئب والحمل.
لذلك وجهنا إليكم هذا السؤال، راجين منكم تسليط الضوء على هذه المسألة بما فيه شفاء الغليل، وبما يقطع رأس كل شبهة، ويستأصل شأفة كل ريبة .
والله المسؤول أن ينعم علينا وعليكم بالتوفيق لما يحبه ويرضاه.


مصطلحات بيع الإقالةالجواب : بعد حمد الله بما هو له أهل، والصلاة والسلام على نبيه الذي كشف به الغمة، وأزاح بطلعته دياجر الجهل المدلهمة، وعلى آله وصحبه نجوم الهدى لمن سرى في طلب الحق وأمه.
اعلم أن ما تعورف على تسميته عندنا ببيع الإقالة أو بيع الخيار بحثه علماء الأمة من شتى مذاهبها معنونا بأسماء مختلفة ، فالمشهور عند الحنفية تسميته بيع الوفاء ومنشأ هذه التسمية عند أهل سمرقند، وقد سمي عندهم بأسماء أخرى، فمنهم من يسميه البيع الجائز، ومنهم من يسميه بيع المعاملة، وسماه آخرون بيع الأمانة وهو المشهور بمصر، وبيع الطاعة أو الإطاعة وهو المشهور عند أهل الشام، وسمي عند حنفية تونس الرهن، أما المالكية فقد اشتهر عندهم ببيع الثنيا، كما اشتهر عند الشافعية ببيع العهدة، وعند الحنابلة ببيع الأمانة كحنفية مصر، ويسمى في طرابلس الغرب بيع الوعدة، وعند أهل اليمن بيع الرجاء، وأشهر أسمائه عند غيرنا بيع الوفاء، ولعل ذلك راجع إلى أن هذا الاسم هو الذي سماه به أول الناس تعاملاً به وبحثا في أحكامه وهم الحنفية كما سيأتي إن شاء الله .
نشأة هذا البيع:ولم يكن التعامل بهذا البيع معهودا في الصدر الأول، ولذلك لم يرد له ذكر في الحديث الشريف، ولا في الآثار المروية عن الصحابة رضوان الله عليهم، ولا في أقوال التابعين، بل ذهب كثير من الفقهاء الذين بحثوا أحكامه إلى أن نشأته كانت في القرن الخامس الهجري ببلاد ما وراء النهر، وفي هذا يقول العلامة محمد بن محمد بيرم الثاني -من علماء الحنفية- في كتابه "الوفاء بما يتعلق ببيع الوفاء" : 
"أعلم أنه لما كان الغالب على الناس في عصر المجتهدين وما قرب منه قصد النفع الأخروي، حتى كان المقرض منهم يقرض لوجه الله عزوجل لم يكن لهذا العقد وجود في دائرة الشهود، فلما انقلبت الأوضاع وغلب حب الدنيا على الطباع وصار الإنسان كما قال صاحب الفصول ( لا يقرض غيره شيئا كثيرا من ماله من غير أن يطمع بحصول نفع مالي ) أحدثوه لتحصيل الأرباح بطريق مباح، وأظن أن مبدأ ظهوره كان بسمرقند لأن الكلام فيه للسمرقنديين" .اهـ
وقال الأستاذ المحاسني في شرحه على المجلة: "إن بيع الوفاء حدث اعتباره والقول به بين العصر الخامس والسادس في ديار بخارى " وبيّن أن أصله أن تلك الديار تراكمت فيها الديون على أصحاب العقارات بدرجة كادت تذهب بها .
وذكر العلامة الشيخ مصطفى الزرقاء في بحثه "بيع الوفاء وعقد الرهن " أن أول ظهوره وتعامل الناس به في القرن الخامس الهجري في مدينة بلخ .
الوجه الحقيقي لهذا البيع :وهو بيع لم يقصد به إلا التحايل على الربا بأسلوب المخاتلة والخداع ليخفى هذا القصد، فإن المتعاملين به يعمدون إلى إظهار وجه البيع منه ومواراة وجه الربا، وقد تفطن لذلك أهل العلم، فمنعه جمهورهم من أصله لما ينطوي عليه من سوء المقصد ويترتب عليه من فساد في دين الأمة وأخلاقها، ولأن الحلال والحرام لا ينظر في حكمها إلى الصور الظاهرة، فإن الله العليم الخبير هو الذي تعبد عباده بتحليل ما أحل وتحريم ما حرم، وهو سبحانه لا تخفى عليه خافية مما يعتمل بين طوايا النفوس وحنايا الضمائر، والعبرة إنما هي بالجوهر لا بالشكل وبالحقيقة لا بالخيال، وهل تتحول النجاسة عن حكمها وتستحيل عن طبيعتها إن هي صبت في وعاء حسن الصورة نظيف المظهر طيب الرائحة ؟.
حكم هذا البيع عند الفقهاء:وقد اشتهر الحنفية بالتسامح في المعاملات والتوسع في كثير من الأحكام حسبما يوحي به الظاهر أحياناً من عدم مجانبة شرع الله، لذلك كانوا أكثر المذاهب توسعاً في أحكام هذا البيع بل أصل نشأته كانت في أكنافهم، ولكنهم مع ذلك اختلفوا في حكمه إلى آراء متعددة، قال العلامة بيرم الثاني منهم: "والتحيل لذلك وإن كان مشروعاً لكن صلوحية هذا لذلك ليس ببين وليس هو من الأمر الهين، فلذلك اختلفت فيه أنظار من ظهر في عصرهم من نوادر الدهر وحاملي لواء المذهب النعماني بما وراء النهر" وقد أنهى العلامة البزازي في جامعه وهو من علماء الحنفية خلافهم في ذلك إلى تسعة أقوال، وهي مشروحة في أمهات كتبهم كما أوسعت في بحوثهم ورسائلهم بياناً وتفصيلاً، ولكن العلامة بيرم الثاني ردها إلى خمسة ثم قال: "وما زاد عليها راجع بقليل تأمل إليها" ومن أجل اختصار الجواب أقتصر فيه على إيراد هذه الخمسة بشيء من التلخيص والإيجاز فدونكها:
أولها: أن هذا العقد لا يعدو أن يكون رهناً في حكمه ولو عبر عنه بلفظ البيع حتى لا يكون للمشتري فيه غير حبس العين فيما يكون له على البائع من دين، ومعناه أنه ليس له أن ينتفع بشيء من ريعه، وهو مذهب أبي شجاع وابنه والسعدي وأبي الحسن الماتريدي والقاضي الأمير، استدلالا منهم بأن العبرة في العقود بمعانيها لا بمبانيها، بدليل جعلهم الكفالة بشرط براءة الأصيل حوالة، والحوالة بشرط عدم براءته كفالة، وما هو إلا اعتبار لجانب المعنى وإلغاء لظاهر المبنى، والذي يفهم من الخيرية أن هذا هو رأي أكثر الحنفية، وما من ريب أن الأخذ بهذا الرأي يفوت على ذوي الأطماع ما يرومونه من التذرع بهذه المعاملة إلى أكل الحرام، فإنهم لا يجدون سبيلا إلى استغلال العين التي اشتروها رأي العين عندما يلزمون به .
ثانيها: أنه بيع جائز لازم إذا عقد بلفظ البيع من غير ذكر شرط فيه لا فرق بينه وبين البيع البات الصحيح في حكم ما ، فلا يسوغ فسخه من طرف واحد وإنما بالتراضي بين الطرفين على جهة الإقالة، وهو الذي نقل غير واحد عن النسفي اتفاق شيوخه في زمنه عليه، وحجتهم أن متعاقديه تلفظاً بلفظ البيع من غير ذكر شرط الفسخ فيه وإن أضمراه بقلوبهما، إذ ذاك أو شرطاه نصا قبل العقد بناء أن العبرة في الشرط المفسد بقرانه للعقد ذكراً باللسان دون تقدم ذكره عليه ولا قرانه به مضمرا بالجنان .
قلت: في هذا المذهب نظر لا يخفى على متأمل، ذلك لأن المعروف عرفا كالمشروط شرطاً، فإن توارد المتعاقدان على ما في نفسيهما من الشرط الذي تشارطاه من قبل العقد أو تعارفا عليه وإن لم يذكراه رأسا لم يختلف حكمهما عما لو تشارطا ذلك في صميم العقد، إلا أنه مع هذا لا يتفق هذا المذهب مع ما يجري عليه عمل الناس من النص على ذكر شرط الإقالة في وثيقة البيع .
ثالثها: أنه بيع جائز لكنه غير لازم، فيحل للمشتري الانتفاع بالمبيع لجوازه ويفسخ بطلب أحدهما لعدم لزومه، وهو الذي ذكره قاضي خان أثناء كلام له، غير أنه يفيد أنه إن ذكرا البيع بلا شرط ثم ذكرا الشرط على وجه المواعدة جاز البيع ولزم الوفاء بالوعد، وهو كما ترى يقتضي أن لا يعتبر الشرط في صميم عقد البيع بل تسمية ذلك شرطاً من باب المجاز ليس إلا، إذ الشرط ليس كالوعد وقد عدوه من باب المواعدة، لذلك أنكر بيرم ما جاء من تصويره نقلاً عن حواشي جلال الدين على الهداية بأن يقول: "بعت منك هذه العين بألف على أني لو دفعت إليك ثمنك تدفع العين إلي" إذ قال على أثره: "ولا يخفى أن هذا هو الذكر على وجه الشرط لكون كلمة "على" من أدواته عند الفقهاء لا المواعدة، ليت شعري أن لم يكن هذا ذكراً على وجه الشرط فما صورته؟! وإنما صورة الذكر على وجهها أن يقول أحدهما للآخر بعد الإيجاب والقبول: "أريد منك متى رددت عليك ما قبضت منك ترد عليّ ما قبضت مني" فيقول: "نعم" أو يقول للبائع ابتداءً: "إن رددت علي الثمن رددت عليك المبيع" ". اهـ
رابعها: أنه بيع فاسد سواء كان شرط الفسخ -أي الإقالة- مقرونا به أو سابقاً عليه أو جاء بعد العقد في مجلس العقد، وقيل ولو بعده - وهو الصحيح عندهم كما في الخانية - أو لم يكن ملفوظاً قط وإنما تواطأ عليه حسب العرف بينهما، وعلى الفساد صاحب العدة واختاره ظهير الدين.
خامسها: أنه مركب من رهن وبيع جائز بات، على معنى أنه يعتبر رهناً بالنسبة للبائع حتى يسترد العين عند قضاء ما عليه من الدين ويضمنها له المشتري بالهلاك أو الانتقاص ضمان الرهن، وبيعا باتا صحيحاً بالنسبة للمشتري في حق نزوله ومنافعه حتى يطيب له أكل ثمره والانتفاع به سكنا وزراعة وإيجارا، وعليه استقر عمل شيوخ النسفي على ما نقله عنه الزيلعي، وذكر العمادي أن فتوى جده برهان الدين وأولاده ومشايخ زمانهم على أن الملك يثبت للمشتري شراء جائزا في زوائد المبيع ولا يغرم لو استهلكها .
وهذا القول هو أقصى ما وصل إليه الحنفية من التوسعة والترخص فيه، وثم أربعة أقوال لهم غير ما ذكرت تركتها اختصاراً كما سبق، فمن أرادها فليرجع إليها في مظانها من كتبهم .
أما المالكية والشافعية والحنابلة فجمهور علمائهم على حرمة التعامل بهذا البيع وأنه فاسد من أساسه، وأن لم يخل مذهب من هذه المذاهب من اختلاف فيه.
رأي فقهاء الإباضية:
وأما أصحابنا رحمهم الله فإن أوائلهم لم يتعرضوا لحكم هذا البيع لأن الله تعالى عافاهم منه إذ لم يكن معهودا في زمانهم، وإنما سرى من بعدهم إلى أعقابهم داؤه واستشرى في مجتمعاتهم وباؤه، فكان بحاجة إلى بحث أحكامه وتفصيل أدلته من قبل أولى العلم والنظر كسائر العقود المستجدة، وقد تفاوتت نظرة أهل العلم إليه بين واقف على شكله الظاهر وغائص إلى أعماق جوهره الباطن، وقد جمع الشيخ الخراسيني من فتاواهم وأحكامهم وأقوالهم في مسائله كتاباً يشتمل على ثلاثة أسفار كل منها كبير الحجم سماه "خزانة الأخيار في بيوعات الخيار"، ومما جاء من قوله في خطبة الكتاب: "أما بيع الخيار ففي تحليله وتحريمه اختلاف بين أهل العلم لأنه لم يكن في قديم الزمان وإنما أحدثوه في آخر الزمان، فقد استهواهم الشيطان وزين لهم كثيرا من فعله وركض عليهم بخيله ورجله، للذي لا يريد الربا ظاهرا ويستحيي أن يكون منه شاهرا،ً فأعلمه ببيع الخيار ودله وحاد به عن الطريق وأزله، ولعمري أن أكثر الربا في التجارات لا سيما هذه البيوعات".اهـ وكلامه هذا دليل على الفطنة والدراية بما ينطوي عليه هذا البيع من الربا المبطن وما يترتب على التعامل به من فساد في الدين.
ومثله قول العلامة الصحاري صاحب كتاب "الكواكب الدري والجوهر البري" : "اختلف المسلمون في تحريمه وتحليله لأنه إنما هو محدث باستهواء الشيطان وتضليله، زين لهم الشيطان سوء أعمالهم وركض عليهم بخيله ورجله فذلك أعمى لهم، ولعمري إنه المحض الخالص من الربا المرجح وإلى الشبهة في البيوعات أرجح".اهـ
وأنت ترى أن المؤلفين قد اتفقا على أن بيع الخيار لم يستلهم إلا من وحي الشيطان الذي لم يرد به إلا إضلال الناس وإغواءهم عن الحق وإيقاعهم في شراك حيله وأنه عين الربا المحرم بالنص والإجماع.
هذا وقد حكيا جميعا عن العلامة أبي عبدالله محمد بن عمر بن أحمد بن مداد رحمه الله تعالى أن بيع الخيار يختلف حكمه باختلاف قصد المشتري بين ابتغاء غلته أو ابتغاء أصله وأضاف إلى ذلك صاحب الكوكب الدري قوله: "ومن ابتاع بيعا خيارا طمعا في غلته فهو المحرم المحجور لقوله -صلى الله عليه وسلم- : "من أجبى فقد أربى" ولأنهم جعلوا هذا سلما يترقون به إلى تحليل الثمرة لغباوة عقولهم إذ أتوا بأقوال وأعمال منكرة فصار أمرهم كمن تزوج بضة وأكن تحليلها لمن أبانها، وكمن باع نسيئة مثلاً بمثلين وأظهر في تأسيس البيع أنه بالتبر أو بالورق، وكمن فجر بخرعوبة وأظهر أنه نكحها ".
ثم أضاف إلى ما تقدم قوله أيضا: "حجة من حرم ثمرة المبيع بالخيار أنه إن كان البيع على أصل المبيع فهو وما أغل لمشتريه، وإن كان على الثمرة صح تحريم البيع في الثمرة قبل دراكها على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقد سماه رباً، وكذا صح نحوه عن بيع المعاومة". وحكى عن الشيخ عمر بن المعقدي رحمه الله قوله: "إن ثمرة بيع الخيار حرام، وهي كمن نكح أختا في عدة أختها حين طلق الأولى، وكمن طلق الرابعة من أزواجه فنكح الخامسة في عدتها، وهذا كله حرام محظور وفاعله تسنم المحجور، وقيل كمن باشر عرسه وقد طهرت من الحيض قبل أن تتطهر بالماء، وكمن طلق عرسه تطليقتين ثم باشر فرجها، وحكى عن الشيخ صالح بن وضاح قوله: "إنما أوقفوا بيوعات الخيار على زيادة الدراهم، وإذا كان البيع الصحيح على أعظم الخطر فكيف بالبيوعات الفاسدة؟ فنسأل الله تعالى النجاة مما يكره " .
وأمثال هذه النصوص واردة في خزانة الأخيار بكثرة، وقد حكى مؤلفها عن الشيخ الفقيه صالح بن وضاح رحمه الله تعالى أنه قال: "قد عاب هذا البيع بعض أصحابنا وأكثر مخالفينا وحرموه، وقالوا: هذا بيع وقع على تحليل الثمرة ولم يقع على الأصل فهو حرام ، فصارت أكثر بيوعات الخيار لا تقع على بيع الأصل ولا على تحليل الثمرة وإنما على زيادة الدراهم يعطي الرجل صاحبه كذا وكذا دينارا ويبيع عليه مالاً لا يعرفه يربي عليه كل سنة كذا وكذا ديناراً، فهذا لا يسع كل مسلم إلا إنكاره، وإذا كان البيع الصحيح مختلفا فيه -أي مع شرط الخيار ولو استوفى شروط إباحته عند من أباحه- وراكبه على خطر فكيف بالسقيم؟ نسأل الله النجاة من كل ما دخله ضيق وحرج" .اهـ
وحكي عنه أيضاً أنه قال: " نشهد الله في ليلتنا ويومنا وما مضى من أيامنا وبقية أعمارنا أنا ناهون من رأينا وعاينا ومنكرون عليه بألسنتنا ما وجدنا إليه سبيلا -إلى أن قال- وقد كنت في بُهلا لحاجة عرضت، فكلمني في هذه البيوع التي أحدثت الفقيه الرضي النقي المرضي عمر بن أحمد بن معد، فكان جوابي له إن شاء الله تعالى لا نعملها ولا نفعلها ولا نأمر بها ولا نرضاها من فاعلها، وننهاه عنها وننكر عليه فعلها".اهـ
وحكي عن العلامة مداد بن عبدالله بن مداد أنه قال: "سألت عن تحريم غلة بيع الخيار؟ السبب فيه كثرة إظهار الربا، ولا يعقد البيع إلا على عدد الدراهم إن كثرت الدراهم كثرت الإجارة وإن قلت قلت الإجارة، ويقول المشتري عندي دراهم العشرة باثني عشر والعشرة بثلاثة عشر، ولا يعقدان البيع إلا تغطية، ويعقده المبيع سنين بكذا وكذا دينارا وهذا كله حرام حرام إلى يوم القيامة... " إلخ.
هذا وممن اشتد نكيرهم من العلماء على المتعاملين ببيع الخيار الشيخ الفقيه راشد بن خلف بن راشد المنحي من علماء القرن الثاني عشر وكان مما قاله فيه :
لقـد أكـل الربـا متجاهلونـا
ببيـع خيارهم أكلـوا حرامـا
تراهـم قيمـة الألفـين نقـدا
وبعـد فيأخـذون لكـل ألف
وسمـوها قعـادات لأصــل
وإن تنقـص دراهـم يكونـوا
فلا بيع هنالـك بـل خـداع
لقـد جمعـوا لغيرهـمُ حرامـا
فتبـا ثـم بعـدا ثـم سحقـا
ولـم يتنـاه أهل عُمـان عنـه
وخوف العـار يستخفون ناسـا
لقد ضلوا جميعـا بـل أضلـوا
أليـس اللـه ربهــمُ عليمـا
فهم قد خادعوا ذا العرش عمـدا
وهم قد حاربوا ذا الطول جهـلا
أما يخشـون زجـراً يقتضيهـم
عليهـمْ لعن خالقهـم مقيمـا
يذيقهم الإلــه غـداً عذابـاً
ونـبرأ مـن فعالهـم جميعــا
وقـوم راجعـين عـن المعاصي
وخـوف اللـه ردوا ما استردوا
وإمـا ينتهـوا عـن ذا ولمــا
فقـد علـم الإله الظلـم منهم
ومعذرة إلـى الرحمــن قلنـا

وتابعهـم عليـه الجاهلونــا
وكانـوا للحـرام محللينــا
بدون الألـف هـم يتبايعونـا
قعادات تسمـى فـي السنينـا
وهـم فيهـا أراهـم كاذبينـا
بقـدر الناقصات مقصرينــا
بـه أكـل الحـرام محللونـا
ومـن أوزاره هـم يضّلعونـا
وتقبيحـا لفعـل الظـالمينـا
وذلك بئس مـا هم يفعلونـا
ولا يخشـون خلاقـا مبينـا
كثيراً ثـم أضحـوا هالكينـا
بمـا تخفـى صـدور العالمينـا
وأنفسهـم أراهـم يخدعونـا
محـاربـة المجـوس المسلمينـا
فينقلبـوا جميعــا خاسرينـا
يعمهــمُ ولعـن الـلاعنينـا
أليما فـي جهنمهـم مهينـا
سوى قـوم لذلـك تاريكينـا
وهم من كـل إثـم تائبونـا
إلى من منـه كانـوا آخذينـا
يكونـوا للنصحيـة سامعينـا
"بإصرار"(1) فهـم لا يؤمنونـا
لعـل البعض منهـم يتقونـا



ويقول أيضاً :
ظهر الفساد في جميـع الـدار
غرتهـم الدنيـا ولـذة عيشهـا
عميت قلوبهــم التي بصدورهم
قد أحدثوا حيلا بها أكلوا الربـا
يتبايعـون أصولهـم بخيارهـم
لم ينو بائعهـم يبيـع ولا الذي
فيحوز غلتـه الذي يبتاعــه
فيحوز غلتــه وغلتـه ربــا
فيجمـع الثمـن الكثير من الربا
هم أظهروا بيع الخيـار بلفظهم
فالله يعلم ما تكن صدورهــم
غفلـوا عن استدراج ربهـم ولا
هلا تناهـوا عن فعالهـم التـي
ورؤسُ مالهــم لهـم فلينصفوا
ثم يردوا مــا استردوا بعد من
من بعد توبتهـم بقلب مخلـص

في البحـر والبلـدان والأقطار
فتشاغلوا بتكاثـر وفخــار
وعيونهم فصحيحـة الأبصار
واستخرجوها من بيوع خيـار
من مثـل مال رائـق أو دار
يشـري شراء الأصل والأشجار
متغافـلا عــن نقمة الجبـار
يهوي بآكلـه غـداً في النـار
ويبوء يـوم الحشـر بالأوزار
خوف المذمـة واتقـاء العـار
وهو العليـم بغامض الأسرار
غفلات ضأن عن هزبـر ضار
ظهرت ظهور الشمس نصف نهار
لا غيرها طوعـا بحكم البـاري
تمر وحب كـان أو دينــار
صاف من الإعجاب والأكدار


ويستخلص من هذه النصوص عن علمائنا رحمهم الله تعالى أمور: 
أولها: أن بيع الخيار بيع مبتدع لم يكن معهوداً في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا في عهود الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم من أئمة السلف، وإنما حدث بعد ذلك بقرون، وهو خلاف ما يروجه أولئك الذين يسعون إلى التلبيس على عوام الناس بإضفاء صفة الشرعية على هذه المعاملة.
ثانيها: أن أصحابنا رحمهم الله لم يختلفوا قط في حرمة التعامل ببيع الخيار عندما يكون القصد منه التوصل إلى ما حرم الله من الربا، ولو كان ذلك بمجرد أن يقصد المشتري الانتفاع بالغلة من غير قصد امتلاك الأصل، لأن هذه النية وحدها كافية في إضفاء حكم الربا على هذه المعاملة.
ثالثها: أن الخلاف بين علماء المذهب قائم فيما إذا ضبطت هذه المعاملة بالقيود الشرعية لصونها من تسرب آفة الربا إليها، فمنهم من يحرمها على الإطلاق لما يشوبها من العلل، ومنهم من يبيحها بشرط مراعاة جميع تلك القيود والحذر من التفريط في اتقاء المحارم والشبهات، وهذا الاختلاف يدل عليه كلام الإمام أبي نبهان رضوان الله عليه "إن كان مراده به الغلة فالحرام أولى بها، وإن أراد به الأصل فالخلاف في تحليلها وتحريمها" وقد حكاه عنه الإمام السالمي -رضي الله تعالى عنه- وأقره، كما أيده في مواضع جمة من آثاره .
رابعها: أن المسألة تخرج عن دائرة الرأي إلى حكم الدين القطعي عندما تكون المعاملة سببا للتذرع إلى ما حرم الله من الربا وأكل المال بالباطل، لذلك نص من نص من أولئك العلماء على لعن من وقع في ذلك والبراءة منه واستحقاقه وعيد الله الشديد لأكله الربا ، وهو الذي يؤذن به كلام الإمام السالمي رحمه الله في جوهره كما سيأتي .
وبالجملة فإن لأصحابنا رحمهم الله تعالى آراء في بيع الخيار، منهم من يرى بطلانه رأساً وفساده أصلاً لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن شرطين في بيع، وقد عدّ قائل ذلك شرط الخيار فيه بمثابة الشرطين لتركبه من أصل الخيار وتحديد زمنه فضلاً عن كونه مظنة التذرع إلى الربا؛ ومنهم من يرى صحته حال انضباط المتعاملين به بأحكام الشريعة من غير مقارفة لشيء من محارم الله وهؤلاء اختلفوا إلى رأيين: 
أولهما: أنه يثبت من يوم العقد فيترتب عليه استحقاق مشتريه لغلته مع تحمله لجميع مغارمه، بشرط أن يكون قصد امتلاك الأصل لا نفس الانتفاع بالغلة فحسب .
ثانيهما: أنه موقوف إلى انتهاء مدة الخيار وعليه ففي مغنمه ومغرمه رأيان؛ قيل: لبائعه مغنمه وعليه مغرمه لأنه لا يستحقه مشتريه إلا بمضي مدة الخيار، وقيل: بل هما يدوران مع أصله فإن رجع الأصل إلى البائع بحكم الخيار كان له مغنمه وعليه مغرمه، وإن استحقه مشتريه بمضي مدة الخيار مع عدم فسخ البائع لعقدة البيع بما له من حق الخيار أخذ معه مغنمه وتحمل مغرمه، وقد حرر هذا الخلاف الإمام السالمي رضوان الله عليه في جوهره تحريراً لم يُسبق إليه، مع إنزاله قوارع إنكاره على الذين خلطوا بين فروع هذا الاختلاف وأصوله، فلم يلتزموا رد كل فرع إلى أصله، فنشأ عن هذا تذرع الناس بهذه المعاملة إلى أكل الحرام المحض والانغماس في رجس الربا الوبىء، وإليكم ما قاله بنصه وفصه:
إن الخيـار في البيـوع يوجـد
فالأول الموجــود في الأخبـار
والثاني أن يشترطـن المشــتري
أو يجعلان لــهما الخيــارا
إلى انقضاء ذلــك الزمــان
وهو خيـار الشرط فيه اختلفوا
وبعضهم أفســده لأجــل ما
هما حصــول مدة الخيــار
والقائلــون بالثبـوت قالـوا
فإن قاصـد الغــلال مربـي
وإنمــا يسوغونــه لمـــن
يريــد أن يأخــذه تدرجـا
هذا الذي قد جوزوه لا سـوى
فلا ترى من يشتريـه أبـدا
هم جعلـوه منهجـا للغـلل
تراهــمُ للمـال يشـترونـا
إن قـرب الـوقت يؤخرونـا
ويجعلـون ذاك حـسن خلـقِ
حالهـما كحـال الزانــيين
وقد مضـى أن الربــا أشـد
ومنهمُ مـن يزعمــن أنــا
يخــادع اللـه بقـول كاذب
يقــول لو قد تركــوه يوما
فقولــه لـو تركـوه يقضـي
كأنه يقـول لســت ألقــى
أمثل هــذا من يريد الأصلا
لكنه يريـد مــا استغــلا
ويشــتري مـالا على خيـار
ينـال فـوق غلــة الأصـول
غلتــه لبيتنـا تســـاق
بائعــه يقــوم بالعمــار
وهو لعمـر اللـه يأكلــنا
إلا إذا ما تــاب من خطيئتـه
وحيثمــا عمّ الفسـاد قمنـا
ومن يوقفـه يوقفــه إلــى
وبعد أن تــم فيجعلنــه
فيجعل الغلــة للبائــع مـا
كذاك كــل مغـرم يلزمـه
وبعضهم يوقفــن الكــلا
فيدفـع الغـرم ويأخـذ الغـلل
وأصله الخلف الذي عنه وجــد
فبعضـهم يقــول عند الصفقة
وقبلــها يكـون مثـل الحوز
كانت فتاويهم على ذا تخــرج
وذاك أن بعـض من تأخــرا
فأخـذوا بقولــه وعاملــوا
هـم يأخـذون غلــة المبيـع
وأنت تدري أنــه تخليــط
مشابــه مسـألة الصبيـة
قد خلطـوا بيـن فـروع الكل
رسالـة سميتهـا الإيضـاحا
وإن نظـرت في فتاوى الأثر
في نادر الأحوال تلقى مسألة
فمن غباوة عرتهـم حسبوا
قالوا لنـا غلتـه حــلالا
والربـح بالضمان حكـم يعرف
أيأكلـونــه طريـا غضــا

بعلــة أو بشـروط تعقـد
أصــوله في جملــة الآثـار
أو بائــع مدتــه للنظـر
ينظــر كل واحد ما اختارا
ثم يصير ثابــت الأركــان
أثبتـه قــوم وقــوم وقفوا
حوى من الشرطين فيه فاعلما
ونفسـه لبائــع وشــار
يثبت ما لم تقصد الغــلال
في مـاله عند جميع الصحـب
قد قصد الأصـل الذي يثبتن
إذ لم يجـد للقطع حالا منهجا
لكن فشا في الناس أتباع الهوى
منهم لغيــر غلــة قد قصدا
واستسهلـوا مأخـذه للمأكل
وهم به للأصـل لا يبغونـا
ومـدة أخـرى يمددونــا
وهو ضلال لا يكــون في تقي
كانــا علـى ذا متراضييـن
من الزنـا فالوصف لا يشتد
مراده الأصــل ويكذبـنا
مع أنــه للأصـل غير طالب
أريـده فـلا أخــاف لوما
عليـه باستلزامـه ما يفضي
بدا فـلا أتـرك مـالي ملقى
كلا وربــي ما أراد أصـلا
من ذاك تلقــاه يبيع الأصـلا
يقول في الخيار رزق جــار
فتكـثر الخيرات في المحصول
تكثر عنـدنا بهــا الأرزاق
يالــك من بيع بذا الخيـار
ربـا بـه غـدا يعذبنــا
ودان للــه بحسـن توبتـه
عن ارتكابــه نشددنــا
أن ينقضي الوقت الذي قد أجلا
للمشـتري وقبــل ينفينـه
لم ينقض الوقت الذي قد أبرما
فصاحب الأصل الذي يغرمه
حتى يرى من يأخذن الأصـلا
وذاك كلـه إذا تـم الأجـل
في عقـده متـى تـراه ينعقـد
وبعضـهم عند تمــام المـدة
وهـو مـراد أكـثر المجـوز
والنـاس عنها للحرام اندرجوا
صحح عقـده وحلل الشـرا
من بــاع بالوقوف إذ يعامـل
ويلـزمونه عــنا التضييــع
بــين الفـروع وهو التخبيط
حالهمــا متحــد القضية
وقد كشفت فيهـا معنى العدل
أوضحت حقهـا بها إيضاحا
وجدتها على الوقوف تنبري
على ثبوت عقــده مفصلـة
بأنهــا فـرع لما قـد ركبوا
والغــرم أنت قم به كمالا
بينهمُ فمـا لهــم تخلفــوا
والغـرم مضّ البائعين مضا


ثم أخذ يبين تلك الفروع التي وقع فيها التخليط بما يطول به المقام ، وكلامه إن دل على شيء فإنه يدل على أنه لا يرى تعامل الناس ببيع الخيار حسب النهج الذي اختطوه لأنفسهم يسوغ تخريجه على وجه من وجوه الإباحة قط، وهو الذي نص عليه في كثير من فتاواه كما في قوله: "أعلم أنهم اتفقوا على تحريم الخيار على قصد الغلة، وإنما أجازه من أجازه عند إرادة الأصل، وقد تساهل الناس في زماننا فجعلوه ذريعة إلى الربا -والعياذ بالله- فلو ارتفع للمجوزين رأس وشاهدوا ما عليه الناس لصاحوا عن لسان واحد ما هذا الذي أجزنا؛ فإن لله وإنا إليه راجعون، انطمس العلم، وظهر الجهل، وذهبت الغيرة، وقلت الحمية الإسلامية، وكاد الناس أن يرجعوا إلى جاهليتهم الأولى" ، وقال فيه أيضا: "وأما معاملته في نفس ما اشتراه بهذه الصفة فحرام لأنه ليس بالبيع قطعاً، كيف يكون بيعا وهم على يقين أنهم لا يملكونه، إنما هو الربا في صورة الشراء سواء بسواء، فاللـه المستعان".
وعندما سئل عن حكم المكاتبة بين المتعاملين به أجاب: "هذا لا يصح أن يكتب وليس هو ببيع فمن كتبه بيعا فقد كذب، وأقول نصحاً وإرشاداً: إياك أن تكتب بيع الخيار فإن الناس قد عملوا فيه بغير الحق وجعلوه ذريعة إلى الربا، فإن كنت تحب سلامة دينك فاكسر القلم عن كتابته".
وليس إنكاره رحمه الله تعالى على المتعاملين ببيع الخيار والمشاركين فيه ولو بكتابة أو شهادة بدعا، فقد سبق إلى ذلك أهل العلم والبصائر منذ قرون قبله، عندما استشرى هذا الوباء الفتاك والداء العضال بين الناس لنهمهم على الدنيا وشغفهم بزخرفها ولهوهم بفتنتها، فقد اجتمع علماء المسلمين بعمان في عهد الإمام محمد بن إسماعيل على كلمة سواء، وهي تحريم الانتفاع بغلة المبيع بالخيار ومنع الناس منعاً باتاً من الحوم حول حمى هذا الأمر استئصالاً لشأفة الفساد وقطعاً لدابر حزب الشيطان، وحرروا بهذا وثيقة شرعية أمضاها الإمام محمد بن إسماعيل وأكابر علماء عصره وإليكموها بنصها وفصها نقلاً عن كتاب "خزانة الأخيار في أحكام بيع الخيار":-
بسم الله الرحمن الرحيم
لما كان نهار يوم الأربعاء لست بقين من شهر جمادى الآخرة سنة ثماني وعشرين وتسعمائة، قد صح الحكم الصحيح الثابت الصريح من الإمام العدل إمام المسلمين محمد بن إسماعيل ومن حضره من المسلمين وما أجمعوا عليه، أن غلة بيع الخيار لا تجوز وأنها رباً حرام، لأن المراد بها الثمرة، ووافق ما نهى عنه النبي -صلى الله عليه وسلم- "من أجبى فقد أربى" وقد جاء في الأثر عن عمرو بن علي في قول المسلمين في بيع الخيار أنه غير ثابت، وهذا قول من لا يراه ثابتا، الأصل فيه عنده أن هذا البيع قد وقع على الثمرة لا على الأصل، وكانت هذه حيلة على تحليلها، وكذلك قال الذين احتجوا بتحريمه قالوا لما صح عندنا أن بيع الخيار المراد به الثمرة حينئذ قلنا بفساد ذلك البيع، وكان هذا موافقاً لما نهى عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "من أجبى فقد أربى" والدليل على هذا ما صح عندنا أنهم جعلوا هذا البيع طريقاً يتوصلون بها إلى تحليل الثمرة على الجهلة من قولهم، وأظهروا هذا البيع على تغطية ما لا يجوز، وكان قولهم هذا موافقاً للرجل الذي تزوج المرأة في السريرة تحليلاً لمطلقها، أو كالرجل الذي في نيته في بيع باعه مكوكاً بمكوكين أو تمراً بحب أو حباً بتمر ثم أظهر عند عقدة البيع أنه بدراهم، وكالذي وطئ المرأة في السريرة فأظهر أنه قد عقد عليها نكاحاً وأنه قد تزوجها ، وما يجئ نحو هذا، وهذا كله حرام، فقد قيل في النيات، هن المهلكات وهن المنجيات، وكذلك قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : "الأعمال بالنيات ولك امرئ ما نوى" وقال : "نية المؤمن خير من عمله ونية الفاجر شر من عمله" وقد صح عندنا أن المراد ببيع الخيار الثمرة وإنما جعلوا هذا طريقاً فيما زعموا للتغطية على تحريمها، والدليل على فساد هذا إن كان هذا البيع وقع على النخلة وكانت الثمرة لربها، وإن كان المراد به الثمرة فقد وافق هذا البيع قول النبي -صلى الله عليه وسلم- : "من أجبى فقد أربى" فهذا أحد وجوه الفساد في ذلك، والوجه الثاني مثل هذا كمثل رجل تزوج امرأة ثم طلقها ثلاثاً فتزوجها متزوج لإحلالها لزوجها الأول، وهذا مما قال بفساده المسلمون على الزوج الأول والثاني، والوجه الثالث كرجل وافق رجلاً على شراء حب أو تمر عنده المكوك بمكوكين أو تمرا بحب أو حباً بتمر ثم اشهد على نفسه أنه بدراهم فهذا بيع أيضا في السريرة حرام ، قال : فهذا قولنا في بيع الخيار والله أعلم. هكذا جاء في الأثر كتبته كما وجدته.
نعم ما كتب عني فهو من إملائي، والحق أحق أن يتبع وما بعد الحق إلا الضلال، كتبه الفقير إلى الله تعالى الإمام محمد بن إسماعيل بن محمد الحاضري بيده حامدا لله وحده مصليا مسلما مستغفراً.
صحح ثابت ما حكم به الإمام من تحريم غلة بيع الخيار فهو الحق والصواب الموافق لآثار السلف، وبذلك جاء الأثر وعليه العمل، كتبه العبد الفقير لله مداد بن عبدالله بن مداد بيده .
صحيح ثابت ما حكم به الإمام العدل محمد بن إسماعيل في تحريم ثمرة بيع الخيار فهو الحق والصواب لا شك فيه ولا ارتياب، وبه جاء الأثر وبه نعمل، كتبه العبد الذليل لله تعالى محمد بن أبي الحسن بن صالح بن وضاح بيده.
صحيح ثابت ما حكم به الإمام العدل محمد بن إسماعيل في تحريم ثمرة بيع الخيار فهو الحق والصواب لا شك فيه، كتبه الفقير لله تعالى عبدالله بن محمد بن سليمان بيده .
صحيح ثابت ما حكم به الإمام العدل محمد بن إسماعيل في تحريم ثمرة بيع الخيار فهو الحق والصواب لا شك فيه ولا ارتياب، هكذا جاء الأثر عن أولي العلم والبصر، وعمل به أشياخنا، وسطره أفقر خلق الله أبو غسان بن ورد بن أبي غسان بيده، حامدا لله وحده مصليا مسلماً .
صحيح ثابت ما حكم به الإمام العدل محمد بن إسماعيل في تحريم بيع الخيار فهو الحق والصواب وعليه العمل لا شك فيه ولا ارتياب، هكذا جاء الأثر عن أولي العلم والبصر وعن أشياخنا، كتبه العبد الأقل عبدالله بن عمر بن زياد بن أحمد بيده ." اهـ
وقد أورد هذا الحكم العلماء الذين تعاقبوا من بعدهم كالعلامة أحمد بن مداد بن عبدالله بن مداد والعلامة عبدالله بن محمد القرن، وأورده إمامنا السالمي في تحفته، وكلهم أقروه وعولوا على مضمونه، وفي نصه ما يدل بوضوح عبارته أن هذا الرأي هو الذي درج عليه علماء السلف الذين كانوا قبل هؤلاء الحاكمين، وهو الحق الذي لا غبار عليه .

الرأي المختار ودرء الشبه عنه:ولعمر الحق أن بيع الخيار وباء منتشر وشر مستطير، أفسد على الناس دينهم وأخلاقهم، وأهلك طارفهم وتليدهم، ولا غرو فإن الله عزوجل قد آذنهم بحربه إن لم يذروا الربا في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وقد وضح الصبح لذي عينين، فتبدى لكل ذي بصيرة أن التعامل به ليس هو إلا وسيلة من وسائل الربا، من أجل هذا ذهب من ذهب من أهل العلم إلى حرمته على الإطلاق، وهذا القول هو الذي أختاره وأعول عليه، وإن كنت لا أقطع عذر المخالف فيه ما دام يقيد الإباحة بما يمنع من سريان أحكام الربا إليه، فإنه ليس من شأننا أن نجعل الرأي ديناً، وإنما اخترت منعه على الإطلاق لأمرين : 
أولهما : أن شرط الخيار فيه يعود على أصل البيع بالنقض، فإن مشتريه تبقى ملكيته فيما اشتراه غير مستقرة، إذ لا يدري متى يأتيه البائع لاسترداده منه وانتزاعه من يده، وهذا مما يؤدي إلى عدم اطمئنانه إلى عمارته وإصلاحه، فقد يكلفه ذلك نفقات قد لا يتمكن من استردادها عندما يفاجئه البائع بطلب انتزاعه منه قبل الانتفاع بغلته، وهذا من أنواع الغرر وهو ممنوع شرعاً، ولئن كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أبطل البيع والشرط، في حين أن الشرط يفوت على المشتري الانتفاع بما اشترى، كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند الربيع رحمه الله أن تميما الداري باع داراً واشترط سكناها، فأبطل النبي -صلى الله عليه وسلم- البيع والشرط فأحرى أن يبطل البيع بالشرط الذي يعود على أصله بالنقض كما في مسألتنا، على أن من أهل العلم من يمنع الشرط في عقدة البيع مطلقاً، كما هو رأي ابن عباس رضي الله عنهما حيث قال في حديث تميم الداري: "أبطل النبي -صلى الله عليه وسلم- البيع والشرط لأن الشرط كان في عقدة البيع؛ وقال في حديث جابر إذ باع للنبي -صلى الله عليه وسلم- بعيراً فاشترط جابر ظهره من مكة إلى المدينة، فأجاز النبي -صلى الله عليه وسلم- البيع والشرط، إنما أجاز النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك لأن الشرط لم يكن في عقدة البيع؛ قال الإمام السالمي رحمه الله "لعل أرباب هذه العلة يمنعون ثبوت الشرط في البيع مطلقاً لأنه يمنع المشتري من مطلق التصرف، وذلك مناف لحكمة البيع لأنه إنما شرع لأجل المنفعة. " اهـ.
هذا وإن من أهل العلم من نسب إلى الأكثر عدم التفرقة بين الشرط والشرطين في إبطال صفقة البيع، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وغيرهما، وقد احتجوا بحديث النهي عن بيع وشرط، وحديث النهي عن الثنيا، ونحن وإن كنا لا نقول ببطلان مطلق الشرط ومطلق الثنيا، لأن حديث النهي عن بيع وشرط لا يخلو من مقال، ولأن النهي عن الثنيا مقيد بألا تعلم، ولتسويغ بعض الشروط في الحديث كما في قوله -صلى الله عليه وسلم- : "من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع" إلا أنا نقول بعدم صحة البيع والشرط إن كان الشرط يعود على صفقة البيع بالنقض، أو كان يقتضي تفويت منفعة المبيع على المشتري، أو كانت به جهالة، وحديث تميم الداري وأحاديث النهي عن الغرر كلها شاهدة على ذلك .
فإن قيل: جاء في الأحاديث ما يدل على تسويغ شرط الخيار في البيع .
قلنا: ليس ذلك من هذا القبيل وإنما هو في مدة يتبين فيها كل من المتبايعين الغبن من عدمه، فاشتراط الخيار إنما هو لتفادي الغرر، كما جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنهما عند أحمد والشيخين قال: ذكر رجل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه يُخدع في البيوع فقال: "من بايعت فقل لا خلابة" و نحوه في رواية أنس عند أحمد وأصحاب السنن والحاكم، على أن من أهل العلم من يرى أن مدة هذا الخيار لا تتجاوز ثلاثة أيام وهو المروي عن عمر رضي الله تعالى عنه وذلك في قوله: "ما أجد لكم أوسع مما جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لحبانِ، جعل له الخيار ثلاثة أيام إن رضي أخذوا إن سخط ترك" وبهذا أخذ أبو حنيفة والشافعي، وحديث المصراة يدل عليه، وأين هذا من خيار يدوم سنين أو عقودا من السنين مع ما ذكرناه من الجهالة والغرر، فقد يكون المبيع بيتا أو حانوتاً يحتاج إلى الترميم أو تجديد البناء، وقد يرجع البائع على المشتري بالخيار فور فراغه من ترميمه أو تجديد بنائه وهو قد أنفق فيه النفقات ولم يحصل منه على طائل، فالجهالة فيه قائمة والغرر حاصل .
ثانيهما: ما يُخشى من إباحته من تذرع ذوي الأطماع به إلى أكل الربا والانغماس في المعاملات المحرمة، وهذا هو الذي وقع فعلاً كما نقلنا عن العلماء الذين شددوا في هذه المعاملة، وكما سنبينه فيما سيأتي إن شاء الله، وسد ذرائع الفساد مطلب شرعي وأصل فقهي دلت عليه دلائل الكتاب والسنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام وعول عليه أهل العلم في الأحكام، ومن دلائل الكتاب عليه قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا} فإن الله تعالى منع المؤمنين فيه من كلمة حق يقولونها لنبيهم -صلى الله عليه وسلم- حتى لا تتذرع بها اليهود إلى مقصد سوء وإضمار تنقيص لقدره عليه الصلاة والسلام، ومن ذلك قوله تعالى: { وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} فقد منع الله سباب آلهة المشركين -مع ما في سبابها من الحمية للدين والغيرة على التوحيد وإهانة الشرك والمشركين- لئلا يؤدي إلى سباب المشركين لله عز وجل، وهو دليل لا غبار عليه أن الخير قد يجب تركه لئلا يفضي إلى شر أكبر؛ ومن أدلته في السنة قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يرث القاتل المقتول، عمداً كان القتل أو خطأ". وما ذلك إلا لأجل قطع السبيل على الذين يريدون التعجل في الميراث، ولا يؤمن منهم أن يغدرو بموروثيهم ويُدَّعوا الخطأ في فعلهم، هذا مع أن الإرث حق للوارث في مال موروثه نصت عليه الشرائع واتفقت عليه الأعراف، ولكن هذا الحق يسقط شرعاً بالقتل ولو كان خطأ صوناً للدماء وسداً لذرائع سفكها.
ومن ذلك ما جاءت به السنن من النهي عن التشبه بالكفار حتى في الأمور المعتادة كما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه كان قائماً عند دفن ميت، وكان أصحابه معه قياماً فمر بهم يهودي وقال: هكذا تصنع أحبارنا. فقعد -صلى الله عليه وسلم- وأمر أصحابه بالقعود، مع أن القيام مباحٌ أصلاً وهو من الأمور المعتادة عند الناس، ولكنه -صلى الله عليه وسلم- آثر تركه خشية أن يتأثر المسلمون باليهود فيتبعوهم في سننهم، ومن هذا الباب ما نراه من تعليله صلوات الله وسلامه عليه كثيرا مما يأمر به أو ينهى عنه بمخالفة اليهود أو مخالفة أهل الكتاب أو المجوس أو المشركين لئلا تؤدي متابعتهم إلى ذوبان شخصية المسلم في عاداتهم .
وقد أخذ بسد الذرائع كثير من المسلمين وأوسعوه بحثاً وتمحيصاً، حتى أن من علماء العصر من ألف فيه كتاباً ضخماً كبيراً، وقد أطال ابن القيم في الاستدلال له وبيان وجوهه في كتابه "أعلام الموقعين" إذ ذكر له تسعة وتسعين وجها مما استظهره من أحكام الكتاب والسنة وأقوال سلف علماء الأمة، كما أطال في بيان حجيته ووجوب التعويل عليه وقوة الاستدلال به في كتابه هذا وفي غيره كما في تهذيبه لسنن أبي داود وكتاب إغاثة اللهفان.
وإذا عدنا إلى آثار أصحابنا رحمهم الله وجدنا أنهم قد تشجعوا في توسيع باب سد الذرائع بقدر ما لا نجده عند غيرهم، ومن هذا الباب ما ذهب إليه كثير منهم من تحريم المرأة على زوجها تحريماً أبدياً إن وطئها في حيضها أو في دبرها مع أن هذا التحريم يترتب عليه تحليلها لزوج آخر، والأصل فيها أن لا تحل له إلا بثبوت انفصالها عن الزوج الأول شرعاً لأن زواجه بها ثابت بالكتاب والسنة، فانظر كيف سوغوا التفريق بين الزوجين بسبب ارتكاب هذا الأمر المحرم مع علمهم بما يترتب عليه من نكاح المرأة رجلاً آخر، وما ذلك إلا لسد الباب على الشهوانيين الذين لا يبالون بالوقوع في الرجس وارتكاب المحظور من أجل إرواء سعار شهواتهم، وقد بين هذا الإمام السالمي رحمه الله تعالى بقوله:-
وإنمـا فـرق من قـد فرقـا
رأوا بأن فـتح هـذا البــاب
لأن غالـب الورى يخشونــا
فعاقبـوه بفسادهـا لكــي
واستنبطوا حجتــه أن جعلـوا
أيضاً وفي الأصـول أن النهي قد
من هاهنـا تشجعوا وفرقـوا

لجعله بـاب المعاصي مغلقـا
بين الورى يفضي إلى العطاب
فراقها والـرب لا يخشونـا
ينسد باب الفحش عن ذاك الفُتي
ذلك مثل أرث من قـد يقتـل
يفضي إلى فسـاد ما فيه ورد
وحصل المطلوب حـين وفقـوا


ومن هذا الباب قولهم بحرمة نكاح الزاني بمزنيته، وحرمة المنكوحة في العدة بل شدد بعضهم فحرم نكاح المخطوبة في العدة؛ ولئن ساغ الأخذ بهذا في باب الأنكحة فإنه أحرى أن يؤخذ به ويعول عليه في المعاملات، لأن الأخذ به فيها لا يترتب عليه أي محذور بل هو مزيد احتياط في الدين وورع عن الوقوع في الشبهات والحوم حول حماها بخلاف ما يتعلق منه بباب الأنكحة، فإن الأصل في المرأة -كما قلنا- أن تكون حليلة لمن عقد عليها الزواج عقدا شرعيا حتى يثبت انفصالها عنه، وأنها لا تحل لغيره بدون ثبوت الانفصال، على أن الأصل حلية النساء للرجال بطريق النكاح الشرعي في غير ما دل الدليل الشرعي على منعه وذلك لعموم قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} .
هذا وقد علمتم أن نشأة هذه المعاملة من أول أمرها كانت من أجل تفادي أكل الربا ظاهراً مع انطوائها على حقيقة الربا في باطنها، وهذا كله مما يرجح وجوب ترك التعامل بها على الإطلاق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظه © القانون والتعليم

تصميم الورشه