مقدمة
: طرح المشكلة
إن العدل من الموضوعات التي نالت حظها من
الدراسة والاهتمام ، إذ سلّم الفلاسفة منذ القدم بأنه إحدى الفضائل الأربع الكبرى
إضافة إلى الشجاعة ، العفة ، والحكمة ؛ الأمر الذي جعل المجتمعات تاريخياً -
بالرغم من اختلاف عقائدها ومشاربها الإيديولوجية - تنشدُه ، وما تزال تراود أحلام
مختلف طبقات المفكرين من فلاسفة وسياسيين وسوسيولوجيين وقانونيين إلى يومنا هذا .
وعبر هذا المسار التاريخي الطويل لم ينعقد إجماع هؤلاء المهتمّين على تصور محدد
ومضبوط للعدل ؛ وإذا كان أكثرهم يعتبره بمثابة (إعطاء كل ذي حق حقه) ، فإنهم
مختلفون في ترجمة هذا المفهوم ، بدءاً من طبيعة هذا الحق ، وكذا الواجب الذي
يقابله ؛ و ما إذا كان العدل نفسه حقّا أو واجباً أو كليهما . بل ويزداد هذا
الاختلاف تعمّقاً كلما ذهبنا باتجاه الفلسفات التي تطرح مواقف متعارضة تؤسس في
مجملها لمشكلات جوهرية حول هذه القيم الثلاثة من حيث أنها خلقية ابتداء ، فنتساءل
مع أصحابها :
I.
كيف يمكن التمييز بين الحق والواجب في صلتهما بالعدل ؟ وماذا ينتج عن ذلك ؟
. ولعلّه تساءل بعد أن تزعزع اعتقاده :
ما الذي يميز الحقوق عن الواجبات إذن ؟
إن حل هذه المشكلة
يقتضي معرفة طبيعة الحقوق والعلاقة بينها ، ثم علاقتها - فيما بعد- بالواجبات ،
لنصل إلى ما تحققه هذه العلاقة من توازن يكرّس العدل في نهاية المطاف .
ـ أولا: الحق من المجتمع الطبيعي إلى المدني
:
فلو تمعّنا في مفهوم الحق
لرأينا أنه يشكل إحدى القيم الثلاث ، إلى جانب الخير والجمال ، التي تؤلف
مبحث القيم (الأكسيولوجيا) . والحق في معناه العامّ هو الحكم المطابق للواقع ،
يُطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك ، ويقابله
الباطل ، وأما الصدق فقد شاع في الأقوال خاصة ويقابله الكذب .
أما
من الناحية الاصطلاحية فيمكن القول أن الحق هو ما تسمح القوانين بفعله، سواء كان
ذلك السماح صريحا ، أو كان نتيجة مبدأ يسوغ كل فعل غير محظور، وهو ما يخوّله
القانون للفرد من مكاسب ، إما بحكم طبيعته أو بحكم علاقاته بالآخر . وما يستنتج من
هذا هو وجود نوعين من الحقوق (كما أوضحنا أثناء التعليق على الوضعية) ؛ حقوق تقتضيها
طبيعة الإنسان كإنسان وتسمى بالحقوق الطبيعية ، وحقوق تتّصل بعلاقته بالآخر سواء
كان هذا الآخر فرداً أو مؤسسة اجتماعية داخل الدولة التي يعيش فيها ، ويصطلح عليها
بالحقوق المدنية .
1.
الحق الطبيعي حق فردي :
يرتبط الحق الطبيعي بـ (نظرية الحقوق الطبيعية ) التي ترتبط هي الأخرى
ارتباطا وثيقا بالنمو المنطقي للثورة الفكرية الإنسانية في عصر النهضة ، والتي
جاءت ضد سلطة التقليد ؛ وهكذا تصبح النزعة الفردانية مقدمة ضرورية تاريخياً ومنطقياً معا ، لنشوء
وظهور نظرية الحقوق الطبيعية، إنها النزعة التي كرست الحقوق الطبيعية ودافعت عنها
معتبرة إياها جزءاً لا يتجزأ من الإنسان ، فما خصوصيات هذه الحقوق ؟
إن الحقوق الطبيعية هي تلك الحقوق الملازمة للطبيعة البشرية ، حقوق
يقتضيها الوجود الإنساني من حيث هي تعبر عن كينونته فلا تستقيم حياته يدونها ،
لذلك فهي حقوق ثابتة لا يمكن إسقاطها كالحق في الحياة ، في التفكير ، في الملكية ،
في العمل ، في الحرية . وقد أعلن جون لوك (J.Lock 1632- 1704) أن للأفراد
كامل الحق في التمتع بالحرية وحقهم في الحياة والملكية ولا يمكن أن ينتزع منهم هذا
الحق ، فلهم بالطبيعة الحق في المحافظة عليها ، إذ " .. لما كان الإنسان يولد ، وله الحرية
التامّة والتمتّع بجميع حقوق السّنة الطبيعية وميزاتها دون قيد أو شرط من سماته ،
سمة أي إنسان أو جماعة من الناس في العالم ، فله حقٌّ طبيعي بالمحافظة على ملكه
".
2.
الحقوق المدنية والأصول الطبيعية :
إن المتمعّن في
هذه الحقوق التي رسمها القانون الطبيعي يلاحظ كيف أنها أصبحت مصانة ومحفوظة
ومقنّنة تحت مواد ، بعد ما كانت مجرّد إملاءات عقلية غير مدونة ، وبالتالي فقد
انتقلت من حالتها الطبيعية إلى المدنية ، فما الشكل الذي أخذه هذا الانتقال ؟
إن انتقال الحقوق من الحالة الطبيعية إلى
الحالة المدنية ، هو انتقال للإنسان في حد ذاته من حالة الفطرة إلى حالة المدينة
حيث القانون الوضعي المدوّن المتمثل في مجموعة من القواعد تُسنّ من أجل تنظيم شؤون
الجماعة وتسيير أمورها ، وذلك بوضع النظم والضوابط التي تحدد علاقات الأفراد
الاجتماعية . . وإن من أهمّ ما حملته هذه القواعد القانونية ونصّت عليه هو تثبيت
تلك الحقوق الطبيعية ؛ ويظهر هذا بشكل جليّ تاريخيا في القانون الروماني ، فقد سعى
فقهاء القانون وراء قاعدة تتطابق وطبيعة الأشياء تؤسس للقانون الوضعي الذي جاء
بالحقوق المدنية ، مما يبرر دور الحقوق
الطبيعية في عملية تكييف الحقوق المدنية لتساير الأوضاع المتغيرة ، كما لعبت دورا هامّا في تعديل
النظام القانوني للمدينة، لتكون بذلك مقياسا أدبياً وتعبيرا عن نعمة إلهية ،
وبالتالي أساساً أبعد لجميع الحقوق المدنية التي نصّت عليها القوانين الوضعية ،
كما كان لنظرية الحقوق الفردية (تلك الحقوق التي تنشأ مع الفرد بحكم طبيعتها حسب
ما نصّ عليه القانون الطبيعي) صدى كبيرا في إعلان حقوق الإنسان ودساتير الثورتين
التنويريتين- الأمريكية والفرنسية- لتتحول بذلك إلى حقوق مدنية بعد ما قُنِّنت
وضعياً ، لذلك اعتبر كثير من فقهاء
القانون والسياسيين والفلاسفة أن الحقوق المدنية ما هي في حقيقتها إلا امتداد
للحقوق الطبيعية ومكمّلة لها .
3. من
الامتداد التاريخي إلى التكامل الوظيفي :
وجب أولا أن
تكون الحقوق المدنية في خدمة الحقوق الطبيعية، كون هدفهما واحداً ألا وهو خدمة
الإنسان مما يحتّم تكاملهما الوظيفي، لذلك جاءت القوانين الوضعية الحاملة للحقوق
المدنية، مؤكدة بموادها على ما رسمته القوانين الطبيعية الحاملة للحقوق الطبيعية،
فإذا كانت الملكية حقا طبيعيا، فإن القوانين الوضعية أكدت على هذا الحق وأعطته
الشرعية المدنية.
4. حقوق الأفراد وحقوق
الجماعات
يبدو أنه من السهولة التميّيز بين الحق
الفردي والحق الجماعي ، على اعتبار أن الأول ما خصّ الفرد وحده والثاني ما تعلّق
بجماعة ، وأن الحقوق الفردية ترتبط بالقانون الطبيعي كما ترتبط الحقوق الجماعية في
جوهرها بالقانون الوضعي . ولما كان القانون الطبيعي سابقا للقانون الوضعي كانت
الحقوق قد بدأت فردية ثم انتقلت إلى حقوق جماعية ؛ والحديث عن هذين النوعين من
الحقوق (الفردية والجماعية) يقودنا إلى الحديث بالضرورة عن ذلك السجال الفكري -
القانوني بين مذهبين فلسفيين كبيرين هما المذهب الفردي والمذهب الجماعي .
فالمذهب الأول يؤمن بالحقوق الفردية ويقدسها
من منطلق نظرته للفرد واعتباره أعلى درجة ولا شيء يسمو فوقه ، وهو الغاية التي يجب
أن تنصهر فيها جميع الغايات ، وما الجماعة إلا مجرد تنظيم يسمح له بممارسة حقوقه ،
كون وجوده سابقاً لوجودها ؛ فالفرد ولد حرّا ، وأنه عندما دخل الجماعة على أساس
عقد اجتماعي أبرم مع سائر الأفراد ، دخل العقد وهو يحمل حريته التي هي أصل حقوقه
الطبيعية التي خوّله إيّاها القانون الطبيعي .
وفي المقابل ينطلق المذهب الاشتراكي من تصور
مخالف ومعارض كلية لتصورالمذهب الفردي، من حيث يقدم الحقوق الجماعية بوضعها في المقام
الأول ويضفي عليها الطابع القدسي ، وهي سابقة في وجودها عن الحقوق الفردية ، من
حيث أن الحقوق ترتبط بالقانون ، وأن القانون جاءت به الجماعة لذلك فهو يراعي
مصالحها باعتبارها الهيئة التي تتركز فيها مصلحة مجموع الأفراد الذين يخضعون
لسلطانها ، ليكون المثل الأعلى للعدل من منظور المذهب الاشتراكي ، هو العدل
التوزيعي الذي يكمن فيما توزعه الجماعة من حقوق على الأفراد كالحق في المساواة-
الملكية- الأمن- الحق في الوظائف- الحق في التصويت في الانتخابات والترشح لها .
ونتيجة لهذا يمكن القول أن الحقوق فرديةٌ
بالنظر إلى مصدرها وجماعيةٌ بالنظر إلى المحيط الذي تمارس فيه ، كما أن تقدم
الحقوق الفردية على الحقوق الجماعية بمنظور بعض النظريات القانونية ، هو تقدم
منطقي لا تقدم زماني ، من منطلق أن وجود الحق يقتضي وجود طرفين ، طرف يكون له وطرف
يقع عليه، بمعنى أن كل حق يسايره في النهاية واجب ما .
ـ
ثانيا: الواجبات الأخلاقية كمصدر للقانون :
1.
العدالة أساس الواجب الأخلاقي :
يجب التمييز أولا بين مصطلح العدل ومصطلح العدالة ؛ فالعدالة نوع من
العدل وليست هي العدل ، أو هي العدل مطبقاً على حالة خاصة . والعدل بالقياس إلى
العدالة يتّسم بالتجريد والعمومية فهو يُعنى بالمبادىء العامة ، في الوقت الذي
تهتمّ فيه العدالة بالظروف الخاصة لكل حالة ، وتتكيف بحسب كل حالة وتستجيب لكل
الدوافع الأخلاقية ، كما أن العدل يتّسم بالصلابة والتشدّد ، في حين تميل العدالة
إلى العطف والرحمة ، وتمثل الإنسانية في القانون كونها تعمل على إزالة المفارقات
وتخفيف ما يكون من حدّة وتشدّد في مضمون القواعد القانونية ؛ لكن يبقى السؤال
مطروحاً : ماذا تعني العدالة بالتحديد ؟ وهل الواجب يعكس حقيقة العدالة كفضيلة
أخلاقية عُدّت أم الفضائل ؟
يذهب أفلاطون إلى أن هذا المفهوم يعني أن نعطي
للنفس حقها وذلك بتحقيق تناسب وتناغم داخلي بين فضائلها الثلاث : الحكمة، الشجاعة،
العفة، من خلال خضوع النفس الشهوانية للنفس الغاضبة ، وخضوعهما معا للنفس العاقلة،
وأن تحقيق هذا النظام في علاقات الأفراد يحقق العدالة الاجتماعية . في حين يقدم
برودون فهماً مغايرا كون العدالة تعني :
" ..الاحترام المتبادل الذي يشعر به المرء تلقائيا للكرامة الإنسانية ، لأي
إنسان مهما كان ، وفي كل ظرف تكون فيه هذه الكرامة موضع تهديد ، وأيّا كانت
المخاطر التي تتعرض لها بسبب تصدينا للدفاع عنها " .
إن العدالة بهذا المعنى ليست مشروعا أو حلماً وإنماّ حقيقة تظهر بطريقة
ملموسة ، إنها ليست تصوراً بقدر ما هي حقيقة موضوعية تظهر أساسا وبالخصوص في
الواقع الاقتصادي من منطلق " ..أن يأخذ كل شخص نصيباً متساوياً من الأموال في
ظروف عمل متساوية " ، وهو مفهوم يختلف عن مفهوم الفلسفة الليبرالية التي ترى
في العدالة الحد من سلطة الدولة وفي المقابل إطلاق العنان للفرد .
2.
تطبيق العدالة غاية الواجب القانوني :
إن هذا الاختلاف في ترجمة مفهومها لا يسقط
عنها كونها إحساسا أخلاقيا موجودا في الضمير الاجتماعي، أو هي الشعور الأخلاقي
الذي يستلهمه القاضي عند محاولته تخفيف حكم قاعدة قانونية في تطبيقها على حالة
معينة حينما يسمح له القانون في ذلك بنص استثنائي صريح؛ إن هذا القانون قد يكون
مثاليا أو طبيعيا أو وضعيا حيث يعطي الحقوق لأصحابها ويحدد الواجبات لمن تقع
عليهم، لذلك فهي فضيلة تجمع بين طبيعتين، فردية وجماعية ، فإذا نظرنا إليها من
جانبها الفردي دلّت على هيئة راسخة في النفس تصدر عنها الأفعال المطابقة للحق،
ويكون جوهرها الاعتدال والتوازن والامتناع عن كل ما هو
قبيح والبعد عن الإخلال بالواجب، وإذا نظرنا إ ليها من جانبها الاجتماعي دلّت على
احترام حقوق الآخرين ، وإعطاء كل ذي حق حقه ، هذا الحق يكون وجهه الآخر واجبا
يفصلهما ويحددهما القانون ، لذلك فالقانون ليس غاية في حدّ ذاته بقدر ما هو وسيلة
لغاية أسمى إنها غاية العدالة بوصفها أم الفضائل لذلك قيل : (القانون رديف
العدالة) فما قيمة هذه المقولة ؟
إن القانون ملازم للعدالة ، وأن زينة
العدالة تأتيها من حيث احتكامها إلى القانون، فالقانون من غير عدل يعد سخرية ،
والعدالة خارج القانون تُعدّ مهزلة؛
نستنتج إذن أنه على الرغم من عدم إجماع سائر
المهتمّين بمسألة العدالة من فلاسفة وسياسيين وقانونيين وسوسيولوجيين على مفهوم
محدد ومضبوط لها، إلا أنهم متّفقون على المستوى النظري على أن العدالة في صورتها
النهائية حق وواجب يتحدّدان بفعل القانون .
II .
ثم أيٌّ منهما يتقدّم الآخر ؛ هل الحق يسبق الواجب ، أم أن الواجب يأتي قبل الحق ؟
لم يتفق فلاسفة القانون الطبيعي وزعماء
الفلسفة الوضعية وبعض الفلسفات الأخلاقية الأخرى على حل هذه المشكلة ، كون تطبيقها
يتوقف على تصورها أولا كمفهوم ، وبالتالي لم يتفقوا على تحديد العنصر المحوري
للعدالة هل هو الحق أو الواجب ، ومن ثمة أي منها تأخذ به في المقام الأول ؟
ـ
أولا: الحق أحق بالأسبقية من الواجب :
فإذا كان فهم العدالة على أنها إعطاء كل ذي حق حقه يجعل فكرة العدالة
ترتبط بالحقوق أكثر من ارتباطها بالواجبات ، فهل معنى ذلك أن العدالة تقدم الحقوق
على الواجبات ؟
1.
أسبقية الحق الطبيعي :
يقرّ فلاسفة القانون الطبيعي بأن العدالة
تقتضي أن تتقدم فيها الحقوق على الواجبات ، فتاريخ الحقوق مرتبط بالقانون الطبيعي
الذي يجعل من الحقوق مقدمة للواجبات كون الحق معطى طبيعي ، كما أن سلطة الدولة حسب
فلاسفة القانون الطبيعي مقيدة بقواعد هذا الأخير الأمر الذي يبرر أسبقية الحق على
الواجب ؛ فحق الفرد سابق لواجب الدولة من منطلق أن القانون الطبيعي سابق لنشأة
الدولة، وأن القوانين الطبيعية وهي تحترم الطبيعة البشرية في إقرارها بتلك الحقوق
الملازمة لكينونتها ، إنما تعبر عن العدالة المطلقة . ولما كانت الحقوق الطبيعية حقوقا
ملازمة للكينونة الإنسانية ، فهي بحكم طبيعتها هذه سابقة لكل واجب ، فهي بمثابة
حاجات بيولوجية يتوقف عليها الوجود الإنساني ، كالحق في الحرية ، الحق في الحياة ،
الحق في الملكية ، كما يمنحهم قانون الطبيعة حقوقا أخرى ، كحق محاكمة المعتدي وحق
معاقبته ، ولايمكن لأي كان إسقاط هذا الحق ، لما كانت الحقوق الطبيعية ترتبط
ارتباطا وثيقا بالقوانين الطبيعية ، وكانت الواجبات ميزة القوانين الوضعية ، أمكن
القول أن الحق سابق للواجب من منطلق أن القوانين الطبيعية سابقة للقوانين الوضعية
، كون المجتمع الطبيعي تقدم المجتمع السياسي .
2.
حقوق الإنسان أولى في القانون الوضعي :
وقد تأثرت الثورة الفرنسية بأفكار هؤلاء الفلاسفة ، وظهر ذلك جليا في
إعلان حقوق الإنسان والمواطن الذي حملته دساتيرها
إضافة إلى كل هذا أن المنظمات الدولية لحقوق الإنسان استمدت فلسفتها
القانونية من فلاسفة القانون الطبيعي ، لذلك فهي تولي اهتماما كبيرا للحقوق على
حساب الواجبات ، وهو ما جاء في المادة الثالثة من إعلان حقوق الإنسان والمواطن
الصادر عن الثورة الفرنسية عام 1789 ، وما جاء في أول إعلان أمريكي للحقوق ، وهو
الإعلان الذي أصدرته (فرجينيا) في جانفي 1776 من أن (جميع الناس قد خلقوا أحرارا
متساوين ومستقلين ، ولهم حقوق موروثة لا يجوز لهم عند دخولهم في حياة المجتمع أن
يتفقوا على حرمان خلفائهم منها ، وهذه الحقوق هي التمتع بالحياة والحرية عن طريق
اكتساب وحيازة الأموال وبالسعي وراء الحرية والآمان والحصول عليها ) .
تعقيب
:
إن فلاسفة القانون الطبيعي وحتى المنظمات
الدولية لحقوق الإنسان أقروا الحقوق وقدسوها ، وفي المقابل تجاهلوا الواجبات ؛ وفي
ذلك إخلال بتوازن الحياة. كما أن إقرار هؤلاء حقوقا مقدسة للفرد أهمها أحقيته في
الملكية إنما هم يدافعون عن قصد أو عن غير قصد على حقوق الأقوياء بدل حقوق الضعفاء
، على اعتبار أن الملكية غير متيسرة للجميع ، بقدر ما تكون حكرا على الطبقة
الحاكمة .
إن جميع التشريعات الوضعية على مر التاريخ لم تخول موادها حقوقا
للأفراد دون مطالبتهم بأداء واجبات ، فالحق دائما يلازمه واجب ، مما يجعل هذا الحق
ليس مطلقا ، لأن طغيان الحقوق على الواجبات في مجتمع ما يؤدي إلى تناقضات
واضطرابات ، وينعكس ذلك انعكاسا سلبيا على الدولة بمختلف وظائفها السياسية
والاقتصادية والثقافية ، ناهيك على أن المبالغة في إعطاء الحقوق هو تعدٍّ على مبدأ
الاستحقاق الذي تؤسس عليه العدالة ، وإهدار لحقوق الآخر من منطلق أن أخذ ما ليس
بحق هو أخذ لحق الغير ، لذلك فلا غرابة أن نجد موقفا معارضا كلية لهذه الفلسفة
القانونية .
ـ ثانيا: أولوية الواجب في تبرير الحق :
1. أولوية الواجب مقتضى
عقلي :
تنظر الفلسفة العقلية نظرة مغايرة تماما للنظرة السابقة ، إذ تضع
الواجبات في المقام الأول ولا تعير اهتماما للحقوق ؛ فإقامة كانط للأخلاق على فكرة
الواجب لذاته يبرر أسبقية الواجبات على الحقوق ، وبمقتضى هذا الواجب يكون السلوك
الإنساني بدافع الإلزام من غير الالتفات لما يتحقق من جراء ذلك السلوك ، أي ما
يقابل ذلك الفعل كحق مقابل القيام به ، فبحسب منطق كانط ، فإن التصدق إنما يتمّ
لأن الواجب يفرض ذلك من غير اننتظار أجر من أحد ، ولأن الواجب أمر مطلق صوري منزّه
عن كل شائبة مادية ، وغير مقيد بأية منفعة بل هو غاية في حد ذاته وليس وسيلة ،
والمثال ذاته ينطبق على الصانع ، فواجب عليه أن يتقن صنعته بغض النظر عن نيله ثناء
الناس كحق مقابل هذا الإتقان .
2. أولوية الواجب مقتضى وضعي :
وإلى نفس المذهب يذهب أوغست كونت، إذ ينطلق
من قبول فكرة الواجب دون إخضاعها لأي نقد خاص، فالواجب حسبه هو القاعدة التي يعمل
بمقتضاها الفرد، وتفرضها العاطفة والعقل معا، ومن الواجب أن نعمل ما نعترف بأنه
أنسب شيء إلى طبيعتنا الفردية والاجتماعية، لذلك ففكرة الحق يجب أن تختفي وتُستبعد
من القاموس السياسي، كما تستبعد كلمة (سبب) من القاموس الفلسفي، كون الكلمتين
تتقاطعان في الطابع الميتافيزيقي، فكل فرد عليه واجبات يجب أداؤها، وليس للإنسان
أي حق بالمعنى الصحيح لهذه الكلمة، لأن مجرد مطالبة الفرد بحق فكرة منافية للأخلاق
لأنها تفترض مبدأ الفردية المطلق، والأخلاق في حقيقتها ذات طابع اجتماعي، إضافة
إلى هذا فإن حق الفرد هو نتيجة لواجبات الآخرين نحوه، فهذا يعني أن تحديد الواجب
سابق لإقرار الحق، الأمر الذي يبرر أولوية الواجبات على الحقوق، من مبدأ أولوية
التفكير الوضعي (العلمي) على التفكير الميتافيزيقي .
إنه تأسيس لعدالة تشرع للظلم والاستغلال ، فكيف يمكن قبول فكرة لا
تتناغم مع الطبيعة البشرية ، لأن عمل الفرد والواجب الذي يؤديه ينتظر من ورائه
مقابلا (حقّا) ، وهذه حقيقة لا يمكن تجاوزها ، أما كونت فقد ، لذلك قضى على الحقوق
كمكاسب فردية لصالح الواجبات كأوامر اجتماعية ، كما أن تاريخ التشريعات الوضعية
التي يدافع عنها كونت تبطل ما ذهب إليه ، فلا يوجد قانون وضعي يفرض الواجبات على الأفراد
دون أن يقرّ لهم حقوقا وإلا كنا أمام عدالة بدون اعتدال .
.III ولكن ألا يُعدُّ العدل ، من حيث هو فضيلة أخلاقية سامية ، مراعاةً
للتوازن بينهما ؟
ـ
أولا: المساواة بوصفها تكريساً لتوازن العدالة :
يُعدّ مبدأ المساواة المبدأ الأساسي الذي
تستند إليه جميع الحقوق والحريات ، وهو يتصدر جميع إعلانات الحقوق العالمية
والمواثيق الدستورية ، وقد جعل عديد المفكرين من مبدأ المساواة المفتاح الرئيسي
للعدالة ، لأنه بانعدام المساواة يُفتح المجال للتمييز والتفريق فيكون التأسيس
للاستغلال ، لذلك كان هذا المبدأ أسمى هدف للثورات العالمية سيما تلك التي عرفت
بالتنويرية – الأمريكية والفرنسية- إبان
القرن السابع عشر والثامن عشر كونه مبدأ لا يهدف إلى إزالة مظاهر التمييز بين
الأفراد المؤسسة على الأصل ، الجنس ، اللغة ، العقيدة ، أو غير ذلك من الأسباب فقط
، وإنما يهدف إلى تحقيق عدالة فضلى لصالح أفراد المجتمع ، تمتعهم بالحقوق على قدم
المساواة . ويمثل هذا المذهب على الترتيب :
1. فلاسفة القانون الطبيعي :
يعتمد هؤلاء مبدأ المساواة للتأسيس
للعدالة تحت مبرر أن الأفراد الذين كانوا
يعيشون في حالة الفطرة كانوا يتمتعون
بمساواة تامة وكاملة فيما بينهم ، ومارسوا حقوقهم الطبيعية على قدم المساواة وبدون
تفرقة ، لذلك أقرّوا أن الأفراد سواسية، وليس هناك شيء أشبه بشيء من الإنسان
بالإنسان ، فلنا جميعا عقل ولنا جميعا حواس ، وإن اختلفنا في العلم فنحن متساوون
في القدرة على التعلم . ومن هنا فإن مبدأ المساواة بين الأفراد في الحقوق
والواجبات برأي فلاسفة القانون الطبيعي يعد مقياسا أساسيا للعدالة تقتضيه الطبيعة
المشتركة لكل فرد مع غيره من الأفراد هذا من جهة ، ويقتضيه الاحترام المتبادل فيما
بينهم باحترام كل فرد منهم لحقوق الآخر من جهة أخرى ، لذلك فهم متساوون ولا يمكن
أن نفرق ونميز بينهم ، ودليل هذه المساواة
من منظورهم :
- إن الناس
متساوون بالمقدرة العقلية والجسدية ، وإن كان هنالك بعض الفوارق، فهي ليست بالأمر
الكبير، لأن أضعف الضعفاء يمكنه بشيء من الفن أو الاحتيال أن يتغلب على أقوى
الأقوياء، فهذه الفوارق على وجودها لا تخلق فروقات عملية هامة في حياتنا.
2. فلاسفة
نظرية العقد الاجتماعي :
إن هؤلاء يؤسسون
العدالة على مبدأ المساواة بين الأفراد، من منطلق أن الأفراد تعاقدوا للخروج من
حالة الفطرة من أجل حياة أفضل يتمتعون فيها جميعا بمساواة مطلقة، فالأفراد كانوا
يتمتعون بمساواة تامة وكاملة، ولأسباب عدة ومختلفة انتقلوا من المجتمع الطبيعي إلى
المجتمع السياسي- الدولة- من أجل حياة أفضل أكثر تنظيما تحافظ على مساواتهم
الطبيعية التي كانوا يتمتعون بها، فالأفراد في المجتمع الطبيعي ما كانوا ليدخلوا
في فعل الخضوع هذا مالم يعتبرهم المتعاقدون معهم متساوين لهم، وهنا تصبح المساواة
شرطا لقيام العقد، ومن ثمة فالأصل في العقد أنه قائم علىعدالة قوامها المساواة بين
جميع الناس في الحقوق والواجبات بما في ذلك الحاكم والمحكوم على حد سواء.
3. الإعلان العالمي لحقوق
الإنسان والثورات التنويرية :
لقد كان للإعلان العالمي لحقوق الإنسان والثورتين الأمريكية والفرنسية
على وجه التحديد دورا كبيرا وفعالا في تدعيم مبدأ المساواة كأساس لتجسيد العدالة
بين أفراد المجتمع ، وهذه الثورات في
الحقيقة ما هي إلا تتويج لتلك الحركة الفكرية والفلسفية التي شهدها القرنين السابع
عشر والثامن عشر التي كانت تنادي بمبدأ المساواة كأساس لعدالة حقيقية بين أفراد
المجتمعات ، وقد اعتبر جون لوك إنهم يجب أن يحكموا طبقا لقوانين مستقرة نشرت
على الناس ، لا تتغير طبقا لحالة معينة ،
إذ يجب أن يكون هناك قاعدة واحدة تطبق على الجميع ، فلا فرق بين غني وفقير ، وبين
فلاح وأمير .
4. الفلسفة
الاشتراكية :
تؤمن الفلسفة الاشتراكية بأنه لا عدالة بين أفراد المجتمع دون إقرار
مساواة حقيقية بيتهم في الحقوق والواجبات ، وطريق ذلك إقرار للملكية الجماعية
لوسائل الإنتاج ، كونها الملكية التي تسمح للجميع بالتمتّع بهذا الحق ، لأن
الملكية الخاصة وامتلاك وسائل الإنتاج بواسطة الأفراد يعرقل روح المساواة ويكرس
للطبقية والاستغلال عن طريق حيازة صاحب رأس المال لعمل غيره فتضيع حقوق الأفراد
لصالح أصحاب رؤؤس الأموال ، وكنتيجة حتمية لذلك يقسم المجتمع إلى طبقتين متناقضتين
طبقة تتمتع بجميع الحقوق وطبقة محرومة من كل شيء ، فتغيب العدالة ويغيب معها
استقرار المجتمع .
تعقيب :
إن هذه المواقف على اختلافها تتقاطع عند نقطة محورية ألا وهي تأسيس
العدالة على مبدأ المساواة بين الأفراد ؛ المساواة بينهم في الحقوق والواجبات ،
بأن يتمتع الجميع بنفس الحقوق والمنافع العامة ، ويخضعون على قدم المساواة لجميع
التكاليف والأعباء المشتركة. لكن بنظرة واقعية يمكن القول أن مبدأ المساواة لا
يمكنه مسايرة الواقع العملي، وهذا ما تفطن إليه حتى أحد روّاد المذهب الاشتراكي
نفسه كشارل فورييه (C.Fourier 1772- 1837) ، إذ اعترف بأن المساواة المطلقة
باتت مستحيلة كونها تتعارض حتى مع الطبيعة البشرية، فإذا كانت الطبيعة لم تسوِّ
بين الأفراد في المواهب والقدرات الشخصية، حيث كانت سخيّة مع بعضهم في حين قتّرت
على البعض الآخر ، فانعكس ذلك على واقع حياتهم فنتج تفاوت حقيقي وتمايز فعلي وخاصة
في ضوء التقدم العلمي والتقني المذهل، الأمر الذي يدعو ويفرض إعادة قراءة ومراجعة
مبدأ المساواة كمبدأ لعدالة موضوعية .
ـ ثانيا: العدالة في التفاوت والاستحقاق :
هذا ما آمنت به بعض النظريات الدينية
والفلسفية وآمن به العديد من العلماء والمفكرين بناء على الفوارق في القدرات
والمواهب والاستعدادات ، إذ جعلت الطبيعة من البعض أذكياء وأقوياء ، وجعلت من
البعض الآخر أغبياء وضعفاء . ويعبّر عن هذا التوجّه :
1. في الفلسفة الكلاسيكية : ذهب
أفلاطون إلى تقسيم المجتمع إلى ثلاث طبقات : طبقة الحكام ، والجنود ، والعبيد ،
وهي طبقات تقابل مستويات النفس الإنسانية : النفس العاقلة ، والنفس الغاضبة ،
والنفس الشهوانية ؛ هذا التقسيم مردّه الاختلاف
القائم بين الأفراد في القدرات والمواهب والمعرفة والفضيلة ، لذلك على العدالة أن
تحترم هذا التمايز الطبقي الموضوعي ، فللحكام (الفلاسفة) حقوق وللجنود حقوق من
الدرجة الثانية وحقوق العبيد تأتي من الدرجة الثالثة، والدولة مطالبة أن تراعي هذه
الفوارق وأن توزع هذه الحقوق وفقا لهذا المعيار الذي يقتضي أن يوضع كل فرد في
مكانه اللائق. أمّا أرسطو فقد رأي أن بعض الناس يولدون عبيدا بالطبيعة، ولهذا فهم
لا يصلحون إلا للعبودية ! فالعدل من هذا المنطلق يوجب أن يوضع كل فرد في مكانه
الطبيعي الأليق به وما مبدأ إتاحة الفرصة للفرد، والذي تقرّه التشريعات الوضعية،
إنما هو في حقيقته اعتراف ضمني بالفوارق الطبيعية القائمة بين الأفراد ، لذلك
فتوزيع الحقوق بين هؤلاء يجب أن يكون على أساس هذه الفوارق، كما أن عدالة التوزيع
التي يؤكد عليها أرسطو أساسها الاستحقاق طبقا للكفاءة والاستعدادات الطبيعية التي
تزداد معها الفروق الاجتماعية.
2. في
الفلسفة الحديثة : يؤكد هيغل (Hegel 1770- 1831) على مبدأ التفاوت لكن على مستوى أعلى أي
التفاوت بين الأمم، فالأمة التي تصل إلى الفكرة المطلقة يحق لها أن تملك كل الحقوق
وتسيطر على العالم على أساس أنها أفضل الأمم، ويبقى للأمم الأخرى واجب الخضوع،
فللقوي الحق وعلى الضعيف الواجب وهذا هو المنطق الذي يجب أن تحتكم إليه أية عدالة
سواء تعلق الأمر بالأفراد أو الأمم. وهي الفكرة نفسها التي اعتنقها الفيلسوف
الألماني نيتشه (Nietzsche
1844- 1900) ، إذ يؤكد على أن التفاوت بين الناس قائم ولا أحد يمكنه إنكاره
وكنتيجة لهذا الإيمان يقسم المجتمع إلى طبقتين : طبقة الأسياد وطبقة العبيد، ومن
الطبيعي أن يكون للأسياد حقوق غير تلك التي تكون للعبيد، للأسياد حق الملكية
والحكم وللعبيد واجب الطاعة والاحترام وخدمة الأسياد، وأن أية محاولة من قبل
العبيد حتى التفكير في التطلع إلى حقوق الأسياد يُعدّ اختلالا للتوازن الاجتماعي
والمساواة الذي تقتضيه العدالة الاجتماعية، كما يحرم على هؤلاء العبيد حق المشاركة
في الانتخابات وحق الترشح لها والإدلاء بأصواتهم، فذلك وقاحة وفضاضة كونهم يفتقرون
إلى صفات تؤهلهم لذلك.
3. في الإيديولوجيا الرأسمالية :
تنطلق هذه الفلسفة بالتأسيس للعدالة من منطق مبدأ التفاوت ، مبدأ الطبيعة البشرية
؛ فالأفراد مختلفون في مواهبهم وقدراتهم مما يبرر التفاوت بينهم في الحقوق ، وما الملكية الفردية التي تؤمن بها
هذه الفلسفة في تنظيمها الاقتصادي والسياسي إلا ترجمة لذلك . إن الملكية الفردية
لوسائل الإنتاج معناها إعطاء الأحقية للبعض في التملّك دون البعض الآخر ، لأن وجود
هذه الملكية لدى البعض يقتضي انعدامها بالضرورة لدى البعض الآخر من أعضاء المجتمع
، وهكذا فالفلسفة الرأسمالية تكون بهذا قد قسمت المجتمع - شأنها في ذلك شأن
الفلسفات السابقة الذكر- إلى طبقتين طبقة مالكة (أصحاب رؤوس الأموال) وطبقة أجيرة
(طبقة العمال الكادحين) ؛ ولكل طبقة امتيازاتها .
4. في علوم
الطبيعة والإنسان : إذا كانت العدالة تؤسس على الحق والواجب، وكان إعطاء
الحقوق للأفراد يقابله مطالبتهم بردّ واجبات ، فإن قدرة الأفراد على رد الواجبات
مختلفة ومتفاوتة ويظهر ذلك في مجالات عدة ، فعلى المستوى البيولوجي هناك اختلاف في
بنياتهم البيولوجية والمورفولوجية ، مما يحتّم اختلاف قدرتهم على العمل ، ومن ثمة
اختلاف القدرة في ردّ الواجب ، لذلك فروح العدل تأبى أن تسوي بينهم في الحقوق ،
فالتفاوت والاختلاف بين الأفراد قانون طبيعي يستمد مصداقيته من الواقع ، لذلك يقول
الطبيب والفيزيولوجي الفرنسي آلكسيس كاريل (1873A.Carrel-
1944) " ..بدلا من أن نحاول تحقيق المساواة بين اللامساواة العضوية والعقلية
[...] يجب أن نوسع دائرة هذه الاختلافات وننشىء رجالا عظماء" . فالناس حسب
كاريل يولدون مختلفين ، فهناك من يولد رقّا ، وهناك من يولد سيّداً ، لذلك يجب أن
نساعد أولئك الذين يملكون أفضل الأعضاء والعقول على الارتقاء اجتماعيا . كما يظهر
تمايزهم في المجال السيكولوجي من حيث أنهم مختلفون في قدراتهم العقلية وفي مواهبهم
وذكائهم ، ويمتدّ هذا الاختلاف إلى المجال الاجتماعي ، فالناس في حياتهم
الاجتماعية ليسوا سواء ، فهناك الفقير وهناك الغني ، هناك من يملك وهناك من لا
يملك ، والملكية حق طبيعي للفرد ، فليس من العدل أن ننزع منه هذه الملكية لنشرك
معه فردا آخر بدعوى المساواة
إن العدالة كقيمة أخلاقية ترفض أن تؤسس على
هذا التصور الاجتماعي العنصري ، فهي أسمى من أن تنزل إلى مستوى هذه النظرة التي
تبرر الظلم والجور وتكرس الاستغلال ، فلقد أدّت هذه العدالة التي بشّر بها هؤلاء
الفلاسفة على اختلاف مشاربهم إلى ثراء فاحش لأصحاب الحقوق وفي المقابل فقر مدقع
لأصحاب الواجبات ، لتخلق بذلك مجتمعا استغلاليا يقدس الثروة ويحطم المساواة ويوسع
الهوة بين طبقاته الاجتماعية .
ـ
ثالثا: توازنها في المساواة والاستحقاق معا :
إن العدالة الحقة هي تلك التي تزاوج بين
المبدأ والتطبيق ، بمعنى أن تقوم على مبادىء موضوعية تعكس ممارساتها الواقعية ،
تقتضي تحديدا ضروريا للقيم لمختلف الأحوال الحسية للوجود الإنساني المتعلقة
بمجالات حياته وربطها بأسس عادلة من خلال
مؤسسات الدولة ، لأن العدالة في واقع أمرها تنزل من الدولة إلى الفرد أكثر مما
تصعد من الفرد إلى الدولة ، من هذا المنطلق يرسم زكي نجيب محمود صورة مثلى لعدالة واقعية تنطلق من تحديد مجالات
الحياة وتقسيمها إلى ثلاثة مجلات (مجال الحقوق ، ومجال القدرات ، ومجال الحاجات
الاجتماعية) ، ويقابل كل مجال بأساسه الصالح له ، فالمجال الأول يحدده القانون ،
والثاني الجدارة ، والمجال الثالث تحدده الحاجات الضرورية للأفراد :
- ففي المجال الأول يجب أن يكون العدل
القضائي بيمزانه أعمى عاصباً عينيه حتى لا تدخل الاعتبارات الشخصية ، ويقتصر دوره
على رد الحقوق المغتصبة لأصحابها .
- وفي المجال الثاني ، مجال القدرات ، يقوم
العدل على أساس الجدارة مادامت قدرات الناس مختلفة ، فإن فكرة المساواة تفسد معنى
العدالة ، والعدل ها هنا يكون هو الآخر أعمى حتى لا يفرق بين الأفراد إلا على أساس
الجدارة والاستحقاق .
- أما المجال الثالث فيقتضي عدالة قائمة على
أساس حاجيات الناس الضرورية، فمن المنطقي أن يكون التوزيع حسب الحاجة ، والعدل في
هذا يجب أن يكون ، عكس المجالين الأولين ، مبصرا ليرى في وضوح الذي يستحق من الذي
لا يستحق.
إن التمييز بين هذه المجلات والأسس يتيح رسم
صورة حقيقية لعدالة موضوعية بين أفراد المجتمع ، بمعنى إن العدالة إذا كانت تعبر
عن الفرد باعتبارها فضيلة له فهي تعكس بدرجة أولى توازن المجتمع والدولة لأنهما
أكبر من الفرد .
***
خاتمة:
حل المشكلة
نخلص إذن من كل ما تقدّم ،
أنه إذا كان لفرد ما حقّ ، فعلى الآخر واجب إشباع هذا الحق ، فحق الفرد في استخدام
ملكيته يتضمن واجب جيرانه في عدم التعدّي على تلك
الملكية ، وإذا كان للفرد حق ، فمن واجبه استخدام هذا الحق في الصالح العام
لمجتمعه بما يكفل للفرد كرامته وللمجتمع انسجامه ، والظلم يجرح عواطف العدالة
ويُدمي فؤادها ، فالمجتمع الفاقد للعدل فاقد لمقوماته الصحية وبالتالي فاقد للوجود
.
إن هذا التناسب بين الحقوق والواجبات هو الذي يحقق العدل ، لأن أيّ طغيان لطرف على حساب آخر يُنتج الظلم والجور والاستغلال ، وهذا التكافؤ بين الحقوق والواجبات هو العدل بعينه ؛ وما العدل في حقيقته إلا تعادل ، هذا التعادل يترجم الطبيعة البشرية ويعبّر عن جوهرها ، من منطلق أن كل فعل يقابله ردّ فعل حتى يتحقق التوازن ، والحق يكمّله الواجب ليحدث ذلك التوازن والتعادل ؛ فالعدل إذن هو قانون الطبيعة وقانون الإنسان معا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق