مقدمة: طرح المشكلة
من الحقائق المسلّم
بها أن الإنسان ، منذ بواكير
تاريخه، لا يعيش في تفاعل مع الطبيعة فقط بل يعيش في
جماعة، في مجتمع.
فهو -كما يقول الفلاسفة
و علماء الاجتماع- كائن اجتماعي بطبعه لا يستطيع أن يحفظ وجوده في الواقع إلا من خلال الآخرين، ومن ثم نجد الإطار الاجتماعي بمثابة المبرّر المنطقي من
وراء ظهور المؤسسات والتنظيمات الثلاثة الأساسية: الأسرة ، الاقتصاد، والدولة.
فأمّا الأسرة فتُعدّ ، باعتبارها مصدر الأخلاق والدعامة الأساسية
لكل تهذيب للسلوك،
المؤسسة الأولى التي يتلقى فيها الأفراد أهمّ دروس
الحياة الاجتماعية، وفي
النظام الاقتصادي يسعون بالعمل الإنتاجي إلى الحصول
من الطبيعة على الموادّ اللازمة لإشباع حاجاتهم الحيوية والإنسانية، ولما كان اجتماع البشر يقوم على علاقات لابدّ أن
تنجُم عنها نزاعات، كما تنجُم عن تفرّقهم صراعات، احتاجوا إلى جانب اجتماعهم
تنظيما سياسيا يمنع تظالمهم، ويقوم بتصريف شؤونهم. وهم ضمن هذه المؤسسات الثلاث
يرومون تحقيق سعادتهم التي لم يحققوا منها في الواقع إلا النزر القليل بسبب
المشكلات التي يفرزها تطوّرها عبر العصور التاريخية، مما يستدعي
بالضرورة إصلاحها
وإعادة تقويمها باستمرار. لذلك، وعلى ضوء التحوّلات االراهنة الحاصلة فيها، يتعيّن
علينا أن نتساءل : إذا كان التغير الذي
يتغلغل حياتنا اليومية، قد
أصبح أمراً واقعاً؛ أليس من الحكمة إعادة قراءة مكتسباتنا
القيمية والتراثية في مجال العلاقات الأسرية ونظمنا الاقتصادية والسياسية ؟
***
I. كيف يمكن للأسرة أن ترتقي بمكتسبات وقيم التراث
باتجاه معالجة مشكلاتها الجديدة ؟
ـ
أولا: الأسرة
كيان اجتماعي متطور :
إن الأسرة تساعد الفرد على الاندماج في المجتمع ليصير
عضوا فيه وفي الوقت نفسه عضوا في الأسرة ، وإذا كانت الأسرة تعمل من أجل أن يبقى
أفرادها على وفاء دائم لها في جميع أحوالها ، فإن المجتمع لا يريد من الأسرة إلا
أن تكون الحاضنة الأولى للأفراد تعدّهم ليكونوا أفرادا في المجتمع وولاؤهم له ،
وقد اعتبر هيغل أن نهاية الاسرة هو الانحلال ليتحوّل أعضاؤها أفرادا في المجتمع
:" إن وحدة الأسرة وحدة محسوسة تقوم على الحب ؛ فالفرد يوجد داخل الأسرة
بصفته عضوا من أعضائها ، وليس فقط بصفته فرداً ؛ وتكون نهاية الأسرة بالانحلال ،
وعلى إثره يوجد الأفراد بصفتهم أشخاصا مستقلين ، أي بصفتهم عناصر من المجتمع
" .
1.الزواج أساس
قيام الأسرة : لا تقوم الأسرة إلا
على أساس الزواج ، إذا كان المجتمع لا يتكون إلا من خلال أسر فإن الأسرة لا تقوم إلا
على أساس الزواج، فهو اقتران بين رجل وامرأة لتكوين أسرة جديدة ، وتختلف شروط
عقده وفسخه والحقوق والواجبات المترتبة عليه،باختلاف الجماعات . معنى هذا
الزواج يخضع إلى نظام اجتماعي تحكمه قيم على عكس التزاوج بين الكائنات الحية ، فهو يحدث
بطريقة آلية طبيعية تقتضيه الغريزة ، أي الضرورة البيولوجية ، ومن ثم الزواج لا
يكون إلا بين امرأة ورجل وعليه هذه العلاقة
قد تتعدّد بينهما فتطرح أشكالا وأنماطا أساسية تؤكدها النظرة التحليلية لتاريخ
الزواج :
2. من الأسرة الممتدّة
إلى الأسرة النواة :
كتب أحد الرحّالة يصف عائلة جزائرية في منتصف
القرن 19: " ...كان أحمد يسكن مع أمه الأرملة ، التي كانت ترأس عددا
من الفتيات من أقاربها ، فالعادة الجزائرية تقضي بأن يسكن أناس ينتمون إلى أجيال
ثلاثة في بيت واحد ، وفي هذه الحالة يضم الحريم جميع أعضاء الأسرة من الإناث ؛ وكان
بطبيعة الحال ممنوعا عليّ -كأروبي وكرجل- منعاً باتّا الدخول إلى قداسة الحريم " .
ولكن التطورات السياسية والاقتصادية والثقافية لمجتمعاتنا الحالية أدّت إلى
انتشار الأسرة النواة التي تتكون من الزوجين وأبنائهما فقط؛ معنى هذا أنها تشمل جيلين :
آباء وأبناء تربطهم علاقات اجتماعية واقتصادية وعاطفية وأخلاقية متبادلة. وأهمّ مميزاتها: وجود الركن القانوني كأساس للمعاشرة بين الزوجين، والمشاركة في اتخاذ القرارات بحيث يكون كل عضو في الأسرة النواة قادرا على تحمل المسؤولية ليس فقط تجاه أسرته بل
أيضا تجاه مجتمعه، وهي تعكس الميل إلى
التسامح والحرية على العكس من
الأسرة الممتدة التي نجد أعضاءها يفتقدون للحرية والمشاركة في اتخاذ
القرارات، وبالتالي تكون
مسؤولية كل فرد تجاه المجتمع أضعف مما هي عليه .
ـ ثانيا: مشكلاتها الوظيفية (المواجهة
والتكيف):
من خلال ما تقدّم نرى
أن الأسرة وإن وفّرت الأمن الغذائي والملبس والمسكن للطفل، لكن تربيته
وتنشئته بالمبالغة في مراقبة سلوكه تؤدّي إلى شعوره بالملل والضيق. في مقابل ذلك يتّجه الطفل إلى تحدّى هذا الوضع
بميله إلى إشباع رغباته بطريقة متخفية مع الاستعداد لتحمّل ما يترتب عن ذلك من
عقوبات. مما يدعونا إلى البحث
في وظائفها ومشكلاتها :
1. طبيعة وظائفها التنوع :
أ) ـ إن المجتمع لا
يستمرّ في وجوده إلا من خلال إنجاب الأطفال وحمايتهم مما يجعل المهمة
البيولوجية من المهام الأساسية للأسرة ، إذ تنحصر في العلاقات الزوجية والغريزة التي يحفظ
بها النوع الإنساني ، مما يقتضي قيام المعاشرة الزوجية على أسس سليمة من أجل التوافق
والانسجام بين الزوجين ،
كما تقوم الأسرة في هذا المجال بضبط السلوك الجنسي في
المجتمع لتقليل النزعات الجنسية وتحدّ من إنجاب الأطفال غير الشرعيين وذلك خدمة
للمجتمع .
ب) ـ وإذا كانت المعاشرة
الزوجية قد تساعد على إشباع الدوافع البيولوجية، فإن توفير السبيل لاعتراف المجتمع
بالأطفال على أنهم شرعيون وأكفاء لحمل تقاليده يبقى من المهام الأساسية للأسرة،
فالقواعد المتعلّقة بشرعية الأطفال تتيح ترخيص المجتمع للوالدين بالأبوة والأمومة بموجب
معايير يحدّدها كل مجتمع لأعضائه، كما تسمح بإعطاء الطفل مركزا اجتماعيا من خلاله
يقوم الأعضاء بالأدوار المحددة تجاهه ومن ثم ينمو داخل المجتمع نموّا سويّا.
ج) ـ وهناك روابط نفسية بين أفراد الأسرة تتجلّى في صور الحنان والمحبة والتآلف ، وهي
من الوظائف الأساسية للأسرة وتعد بمثابة الحبل القوي الذي يشدّ أفراد الأسرة بعضهم إلى بعض .
د) ـ لكن التغذية
السيكولوجية التي تقدّمها الأسرة لأعضائها ليست كافية ، بل يجب
توفير الحاجيات الأساسية لأعضائها وبالتالي القيام بالمهمّة الاقتصادية ، حيث كانت
الأسرة في الماضي وحدة اقتصادية مكتفية ذاتيا تقوم باستهلاك ما تنتجه ، لكن
الإنتاج الصناعي الكبير حوّل الأسرة من مؤسسة اجتماعية إنتاجية إلى مؤسسة اجتماعية استهلاكية ؛ إذ هيّأ المجتمع منظمات
جديدة تقوم بعملية الإنتاج الآلي وتوفير السلع والخدمات بأسعار أقل نسبياً .
2. تحدّيات جديدة
أمام الأسرة :
إن أخطر ما يتهدّد الأسرة
ميل أفرادها إلى النزعة الفردية على حساب النزعة الاجتماعية ، مما يفسح
المجال أمام نشوب الأزمات وتراكمها ، فيظهر الخلل في العلاقات الأسرية التي لا تقدر على
مواجهة أيّ انحراف بالقياس إلى أنماط الحياة العادية ، وتكون النتيجة
الطبيعية حدوث التفكك الأسري وتعذّر
استمرار وحدة الأسرة ، لذا نتساءل عن أسباب التفكك
الأسري ما هي ؟
إلا أن
المرأة اكتشفت فيما بعد أن التحرّر الذي نالته ليس سوى تحرّر مظهري، أما الجوهر
فهو أخطر بكثير ولا زال بعيد المنال . هذه الصورة كان لزاما على المرأة أن تثور ضدّها للتحرر
منها ، وهذا لا يتحقق إلا بالعمل على تصحيح الأوضاع المزيّفة التي
دعمتها المفاهيم الاجتماعية السائدة ، ومنح المرأة المقدرة على أن تمارس بحرية كل
إمكانياتها .
ولكن ما
نراه اليوم من تغير اجتماعي سريع تزداد فيه أنواع الصراع الثقافي المختلفة بين
القديم والجديد نتيجة لثورة
الاتصالات وسرعتها وكثرتها ، لم يصحبها تغيير في
المفاهيم والاتجاهات نحو الآخرين مما يستدعي فهما جديدا يشمل
القواعد والقيم التي تحكم العلاقات المختلفة بين الأفراد وبين المجتمعات بعضها ببعض ، وواجب
التربية أن تهيئ الفرص للأطفال والشباب والكبار كي يشاركوا في أعمال تعيد بناء
الأفكار والاتجاهات حتى تصبح صحيحة لتحقيق التضامن الاجتماعي في
فترة تحكمها العلاقات المعقدة دائمة التغير .
كما أن مسؤولية التربية تكمن في
عملية إعادة البناء الاجتماعي ، وإعادة الفحص المستمر للآراء والأفكار
والمعتقدات والمؤسسات الاجتماعية ، أي للتراث الثقافي في ضوء المشكلات الجديدة
والظروف الجديدة ؛ إذ المواطنة في مجتمعاتنا تتطلب فهما عقليا ، وإلزاما خلقيا قائما على
الأخلاق ، ونوعا من بنائية الشخصيـة ، وبـذلك لا تُعزل التربية عن المجتمع وتغيره الثقافي ، بل تعمل على إكساب الأفراد
قدرتهم على مواجهة مشكلاتهم الاجتماعية بحزم وجرأة يتمثلان في إعادة فحص وبناء
أفكارهم وقيمهم لتناسب التطور الجديد ، والتوفيق في تأدية الأدوار الأسرية باحترام
متبادل ، وعلاقات الصداقة ، واتخاذ القرارات ، وتقبّل العمل مع
الآخرين ، وفي مقابل ذلك ضرورة
إنشاء مؤسسات نفسية للاستشارة والتوجيه والعمل على مساعدة الأسرة
على تجاوز مشكلاتها ؛ كل هذا من شأنه أن يؤدي إلى نجاح الحياة الأسرية في مواجهة تلك التحدّيات . وبذلك يمكن
القول أن الأسرة كمؤسسة اجتماعية يحكمها نظام ثقافي ومنظومة قيمية ، تتأثر بما يحدث في المجتمع من تغير وتطور كما تؤثر فيه ، ولها صلة
وثيقة بمختلف أنظمة المجتمع
الأخرى السياسية والاقتصادية وتعمل في توافق معها .
II. ثم كيف يتأتّى للعمل أن يرفع من شأن تلك المكتسبات
والقيم في ضوء تحدّي العولمة ؟
ـ أولا: من العمل إلى الاقتصاد (المبادئ
والنظم) :
من نافلة القول أن العمل
ضرورة إنسانية واجتماعية لا حيوانية من حيث أن الإنسان مدني
بالطبع ، والحضارة
المدنية تقوم على التقسيم الاجتماعي للعمل الذي
يرتكز على التعاون بين الأفراد ، و يتمّ على سندٍ من استغلال الطبيعة بما يؤثر على
نوع العمران وأحوال الناس
فيزيد منافعهم العامة .
وإلى هذا الحدّ نتساءل : كيف تطور مفهوم العمل ؟ وما أهمّ نتائجه ؟
1. تطور المفهوم وإفرازاته الاقتصادية :
إن المجتمعات البشرية في
بداية تكوينها كانت تعيش على الأغلب لوناً من الاقتصاد البدائي المقفل الذي يعني قيام كل
عائلة في المجتمع بإنتاج كل ما تحتاج إليه، دون الاستعانة
بمجهود الآخرين ، وانصبّ مجهودهم على استغلال مختلف الموارد الطبيعية ؛ كاستخراج المعدن من الأرض وقطع
الخشب من الأشجار.
وقد ارتمى
الفكر الاقتصادي في أحضان الفلسفة عند الإغريق قبل الميلاد ؛ فكان جزءا لا يتجزأ
من المجتمع المنظم في صورة دولة المدينة ، وتركز أساسه في النشاط
الزراعي الذي لم يكونوا يساهمون فيه ، وإنما استخدموا العبيد الذين يخضعون لسيطرتهم .
ولما جاء
الإسلام غير من النظرة إلى الشغل وأضفى عليه الجانب الإنساني الذي يحفظ كرامته ويصون قيمته ، ومن ثم
أصبح الشغل عبارة عن مجهود يقوم به الإنسان لإرضاء ربّه ومجتمعه ؛ وقد انفرد الإسلام بذلك دون سائر
الديانات السماوية والوضعية الأخرى .
إن هذا التطوّر التاريخي الهامّ
أفرز آثارا اقتصادية مما يستدعي الوقوف عند أبرزها :
أ)- الثروة الإنتاجية :
وتمثل ذلك في المنتجات وما لزم منها لضمان استمرار الإنتاج .
ب)- ملكية الفرد والجماعة لوسائل الإنتاج : إن الملكية القائمة على أساس العمل (سواء كانت خاصة أو عامة).
ج)- المبادلة وتقسيم العمل : إن المبادلة بدأت على الصعيد الاقتصادي حين تنوّعت حاجات
الإنسان ونمت وتعدّدت السلع التي يحتاجها في حياته ، وأصبح كل فرد عاجزا
بمفرده عن إنتاج كل ما يحتاج إليه من سلع .
إلا أن
عمليات تملّك ومبادلة الثروة
الإنتاجية احتاجت إلى طريقة يُتّفق عليها
تكون محكومة بمجموعة من الأفكار والقيم شكّلت لاحقاً- وفق
نمط معين- مجمل المذاهب والنظم الاقتصادية المعروفة في
العصر الحديث .
2. النظم الاقتصادية وتوجّهاتها :
إن المعالجة المتوازنة للأنظمة الاقتصادية لابد أن
تقوم على تحديد الخصائص الجوهرية لطريقة الإنتاج من حيث نوع علاقات الإنتاج
السائدة ، وما يرتبط بها من هدف مباشر للنشاط الاقتصادي ، وطريقة أداء الاقتصاد داخل الدولة ؛ وثمة نظامان اشتهرا في العصر الحديث
هما :
أ)- الاقتصاد الرأسمالي وتقديس الحرّية : علاقة الإنتاج فيه تقوم على الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج باعتبارها
القاعدة العامة التي تمتد إلى كل مجالات الثروة المتنوعة. وعلى هذا الأساس يؤمن بحرية التملك، وتسمح للملكية الخاصة
بغزو جميع عناصر الإنتاج من: الأرض والآلات والمباني والمعادن، وغير ذلك من ألوان
الثروة، ويتكفل القانون في المجتمع الرأسمالي بحماية الملكية الخاصة وتمكين المالك
من الاحتفاظ بها. ومن ثم على الدولة أن لا تتدخل حتى لا تعيق النشاط الاقتصادي بل
عليها فقط حماية الملكية الفردية وضمان الحرية باعتبار حرية الإنسان في الحقل
الاقتصادي بمختلف مجالاته هي الأساس الذي تنبثق منه كل الحقوق والقيم .
تعقيب : ترتبط الرأسمالية بالتوافق بين مصالح الفرد التي يندفع إلى
تحقيقها بدوافعه الذاتية، ومصالح المجتمع التي يتوقف عليها كيانه العام؛ فالاعتقاد بهذه الفكرة يجعل من الضروري
على المجتمع أن يطلق الحرية للفرد ليفسح المجال لدوافعه الذاتية أن تقوده إلى
تحقيق مصالحه الخاصة وهي بدورها تؤدي بصورة آلية إلى توفير المصالح العامة ومن ثم
تصبح الحرية وسيلة لضمان ما يتطلبه المجتمع من خير ورفاه، كما أنها تمثل أفضل قوة
دافعة للقوى المنتجة ، وأكفأ وسيلة لتفجير كل الطاقات والإمكانات وتجنيدها للإنتاج
العام.
غير أن ثمة تناقضا رئيسيا في الرأسمالية يتمثل
في
أن المالك يشتري من العامل
قوة عمله ولكنه يتسلم منه العمل نفسه، فالعامل هو الذي يخلق القيمة التبادلية
كلها، ويضطره إلى التنازل عن جزء
من القيمة التي خلقها وهذا ما يعرف بفائض القيمة.
والعملية
الإنتاجية تتصف بالطابع
الاجتماعي من خلال تقسيم العمل، في مقابل ذلك نجد عملية التوزيع لها الطابع الفردي
وهذا ينطوي على تناقض يقوم عليه استغلال الفرد للجماعة، ثم أن الحرية التي نادت بها الرأسمالية مجردة من
كل القيم الخلقية والروحية، فهي لا تعترف بضرورة هذه القيم لضمان مصلحة المجتمع بل يمكن الاستغناء عنها عن طريق توفير الحريات للأفراد و
لا ضرورة ـ بعد هذا ـ إلى إرهاق صاحب المشروع بتربية خلقية معينة، وترويضه على
القيم الروحية ليجعل إشباع الحاجات الإنسانية بأقل نفقة ممكنة "..فلا يتحدد الإنتاج بمقدار الحاجة إليه.
تبين لنا إذن من
خلال نظرة واقعية إلى التاريخ التطبيقي للرأسمالية أن جنايات هذه الحرية الرأسمالية لا تعدّ ولا تحصى ؛ فقد رفضت كل التحديدات الخلقية والروحية في مجرى الحياة الاقتصادية أولا ،
وفي المحتوى الروحي للمجتمع ثانيا ، وفي علاقات المجتمع الرأسمالي بغيره من
المجتمعات ثالثا ؛وهكذا ساد الصراع في سبيل البقاء بدلا
من روح التعاون والتكافل ، ونتج عن هذا النظام الاقتصادي في مرحلة ما مجتمع
إنساني بلا إنسانية .
ب)- الاقتصاد الاشتراكي وتحقيق الحاجيات الاجتماعية : تزعم الاشتراكيون الدعوة إلى نظام اجتماعي جديد و قيادة
الإنسانية إلى تحقيقه ، حيث رأى أن تهديم التناقضات القائمة في المذهب الاقتصادي
الرأسمالي ، لا يتم إلا من خلال إزالة الطبقية واستبدال الملكية الفردية بالملكية الجماعية لوسائل
الإنتاج ، وترتب على الازدياد
المستمر للطبيعة الاجتماعية لعملية الإنتاج أن أصبح من الصعب – أن لم يكن من المستحيل – إسناد ناتج
معين إلى شخص معين بالذات والملكية
الجماعية لوسائل الإنتاج في المذهب الاشتراكي تعني سيطرة المجتمع على وسائل
الإنتاج على نحو يمكن من استخدام الموارد الإنتاجية استخداما يحقق مصلحة غالبية
المجتمع ، هذه الطبيعة الجماعية لملكية وسائل الإنتاج تعطينا نمطا لتوزيع الناتج
الاجتماعي بين من ساهموا في إنتاجه ، ومن ثم يصبح الأصل في الإنتاج الاشتراكي أنه
إنتاج يتكيف وفقا للحاجات الاجتماعية وليست الحاجات الفردية المرتبطة بقدرته
الشرائية كما هو الحال في الرأسمالية، لكن إشباع الحاجات الاجتماعية في فترة زمنية
معينة يتطلب تحديدا لها وهذا لا يتم إلا بتخطيط مركزي يتمثل في اتخاذ مجموعة من الوسائل تهدف إلى توزيع الموارد الإنتاجية بين
الاستعمالات المختلفة على نحو يمكن للاقتصاد من تحقيق أهداف معينة تختلف وفقا لمرحلة التطور التي يمر بها ، وبما يضمن التوازن بين الإنتاج والاستهلاك .
تعقيب : إن النظرة
الأولية تبين الاختلاف بين المذهب الرأسمالي والمذهب الاشتراكي من خلال نظرتهما
للفرد والمجتمع ، فالأول
مذهب فردي يقدس الدوافع الذاتية ، أما الثاني فهو مذهب
جماعي يفني الفرد في المجتمع بالإضافة إلى ذلك نجد الاشتراكية بخلاف الرأسمالية تقتل في الفرد روح المبادرة الفردية وتعيق تفتح المواهب . والواقع
أن كليهما يعتمد على دوافع ذاتية وأنانية ، ويرتكز على
نظرة مادية مع إهمال للقيم الأخلاقية بحجة أن التطور الاقتصادي محكوم بقوانين ضرورية لا
حاجة فيها لمثل هذه القيم ؛ والابتعاد عن الأساس الأخلاقي في هذين النظامين هو الذي يقودنا
إلى محاولة البحث عنه في المذهب الاقتصادي الإسلامي .
ج)- الاقتصاد الإسلامي
والتكافل الاجتماعي : يتألف الاقتصاد الإسلامي من أركان رئيسية يتحدد وفقا لها محتواه المذهبي . وأولى هذه
الأركان مبدأ الملكية المزدوجة الذي يقرّر الأشكال المختلفة
للملكية في وقت واحد أي :
الملكية الخاصة، والملكية العامة ، وملكية الدولة ؛ ولكل شكل
من هذه الأشكال الثلاثة حقلها الخاص الذي تعمل فيه . هذه الأشكال من الملكية في
الإسلام تفترض وجود حرية محدودة بالقيم المعنوية والخلقية ، فيُسمح للأفراد
بممارسة حرياتهم ضمن نطاق القيم والمثل التي تجعل منها أداة خير للإنسانية
كلها ؛ هذا التحديد الذاتي للحرية انعكس إيجابا على المجتمع الإسلامي من خلال
آثاره الكبيرة التي تجلت في النفس البشرية ، ومنحها رصيدا روحيا زاخرا بمشاعر العدل والرحمة واجتثاث دوافع
الظلم والفساد منها .. وبذلك فهو اقتصاد أخلاقي ينظر إلى تلك الغايات التي يسعى إليها بوصفها معبّرة عن قيم
عملية ضرورية التحقيق من الناحية الخلقية ، ولا يستمد هذه الغايات من ظروف مادية وبشروط طبيعية مستقلة عن
الإنسان ذاته ، كما أن الوسائل التي بها تتحقق هذه الغايات ليست مجردة عن الدافع
الخلقي ؛ فالإسلام بهذا المعنى لا يقتصر في مذهبه الاقتصادي على تنظيم الوجه
الخارجي للمجتمع ، وإنما ينفذ إلى أعماقه الروحية والفكرية .
من كل ما
سبق يمكن القول أن الرأسمالية اعتمدت في تنظيمها للاقتصاد على أسس مادية طبيعية
على اعتبار أن الحياة الاقتصادية خاضعة لقوانين موضوعية ثابتة، وأن
الاشتراكية ردّت في الأساس التنظيم الاقتصادي إلى قوانين المادية لتاريخية التي تحكم
تطور المجتمعات ، أما الاقتصاد الإسلامي فالصفة الأخلاقية صفة جوهرية تشع في كل
تفاصيله وخطوطه العامة وبالتالي فهو يهدف إلى ترقية الإنسان روحيا وماديا ، لكن
ابتعاد المجتمع المسلم منذ أمد بعيد عن الاجتهاد في تطوير الاقتصاد
الإسلامي قلّل من أهميته في الواقع
المعيش ، ثم أن التحوّل التاريخي أفرز ريادة سريعة للرأسمالية ليس لها مثيل ، خاصة على المستوى الإنساني، مما دفع إلى الضغط نحو عولمة نموذجها؛ وذلك من أخطر مشكلات وتحديات
العصر الراهن.
ـ ثانيا: قيم العمل وتحدّيات العولمة :
1. قيم العمل في أبعاده الإنسانية :
الإنسان كائن مفكر، يعي تضاده مع الطبيعة ، وهو لا يأخذ من الطبيعة فحسب بوصفها
المشبع لحاجاته ، بل أنه واع عندما يبذل الجهد بما
يتركه ذلك من تأثير فيه ، إذ هو يتصور مقدما
النتيجة التي سيوصله إليها عمله، والكيفية التي يبذل بها هذا العمل ،
ويتبع لتحقيق هذه الغاية الوسيلة المناسبة ؛ فالإنسان بهذا المعنى
بواسطة عمله يغير قوى الطبيعة فيجعلها أقل بدائية و أكثر إنسانية ، في نفس
الوقت يخلق منها أدوات لعمله ، عن طريقها يزيد من إتقان مجهوده الواعي، فكأنه خلق بذلك من الطبيعة
شيئا منه هو ، فتحويل الطبيعية تحويل لنفسه ، وهو يهدف بالعمل إلى
أن يتحرر من العوائق الذاتية ، والتخلص من الأنانية ، ويسخّره وسيلة لإبعاد
القلق والآفات الاجتماعية على أساس من التعاون ، مما يجعل البعد الاجتماعي خاصية أساسية له .
نستنتج إذن أن العمل مجهود
يقوم به الإنسان بوعي منه بالأسباب والنتائج ، في إطار الإلزام
الخلقي والاجتماعي وذلك من أجل تحقيق أمر نافع للفرد والجماعة ؛ وبهذا المعنى
يكون وسيلة لرقي الإنسان المادي والمعنوي ، فضلا
عن أنه يعكس تطوره الاجتماعي والاقتصادي .
2. العولمة (المشكلات والحلول) :
لقد أضحت
ظاهرة العولمة الهاجس الطاغي في المجتمعات المعاصرة، فهي تستقطب اهتمام
الحكومات والمؤسسات ومراكز البحث ووسائل الإعلام ، وقد تعاظم دورها وتأثيرها على
أوضاع الدول والحكومات ومختلف الأنشطة الاقتصادية فيها . مما يدفعها إلى التساؤل
: ما هي العولمة ؟ وما هي الآثار التي تتركها ؟ وكيف نواجهها ؟
إن العولمة كما يعتبرها
الكثيرون تمثل ذلك التدخل الواضح لأمور الاقتصاد والاجتماع والسياسة والثقافة
والسلوك دون مراعاة الحدود السياسية للدول ذات السيادة ، أوالانتماء إلى وطن محدد
أو دولة معينة ، ودون حاجة إلى إجراءات حكومية ؛ فعلى المستوى
الاقتصادي ، تفترض العولمة أن العمليات والمبادلات الاقتصادية تجري على نطاق عالمي بعيد عن سيطرة الدولة القومية ، مما دفع
بالبعض إلى النظر إلى العولمة على أنها إجراء سلبي ، فالاقتصاد المعولم يقع
خارج نطاق تحكم الدولة القومية ، مما يزيد من إمكانات الصراع والتنافس ويزيد من دور الشركات متعددة الجنسية ويحولها
إلى شركات فوق سيطرة الدول ، ورأس مال طليق بلا قاعدة وطنية محددة
وبإدارة عالمية ، فيؤدي ذلك إلى أن تفقد الدولة الكثير من وظائفها في المجالين المدني
والعسكري . ومن جهة
أخرى فإن العولمة بالمفهوم المعاصر ليست مجرد سيطرة
وهيمنة و التحكم بالسياسة والاقتصاد فحسب ، بل تمتدّ لتطال ثقافات الشعوب
والهوية القومية الوطنية ، إلى تعميم نموذج من السلوك ، وأنماط
من القيم وطرائق العيش والتدبير ، وهي بالتالي تحمل ثقافة غربية تغزو
بها ثقافات مجتمعات أخرى
.
ولكن ألا يمكن أن تعمل العولمة بشكل عادل ويستفيد منها
الجميع دون هيمنة ؟
يرى بعض الدارسين أن
".. العولمة تفتح فرصا هائلة لتحرر الإنسانية بما تتيحه من تفاعل بين مختلف
مكوناتها وتعمل على تحريره من علاقات وطاقات ، وعلى تجاوزه من محابس ومراقبات
أصبحت تشكل أكبر عائق أمام تقدم الشعوب ، وليس هناك شك في أن التدفق الحرّ للقيم
والمنتجات والمعلومات ، والأفكار والمخترعات ، يقدم لكل فرد على مستوى الكرة
الأرضية فرصا استثنائية للتقدم والازدهار المادي والنفسي ، كما أن خلق سوق عالمية
واحدة يساهم في توسع التجارة ونمو الناتج العالمي بوتيرة أسرع بكثير مما عرفته
الأسواق القومية التقليدية ، ويفرز بالتالي فوائض مالية هائلة يمكن لو استغلت
لأهداف إنسانية أن تغير وجه المعمورة " . وبهذا المعنى تصبح العولمة وسيلة
لتطور الأفراد و المجتمعات
.
إن الاستفادة من العولمة
يمكن أن تتحقق متى استلهمنا النموذج المطبق حاليا في بعض الأمم
والذي مكنها من أن تصبح ذات قدرات تنافسية أفضل ، ويرجع هذا إلى أن إحساس
الفرد بالأمان الاجتماعي في بلده وتلقيه تعليما راقيا ن ومواكبته لكل التطورات
التكنولوجية يجعله أكثر إبداعا وإنتاجية ، وأكثر إقداما على أخذ المبادرة ؛ هذه
العوامل كلها تجعل منتجات دولها أكثر جودة وذات نوعية متميزة في الأسواق
العالمية ؛ والنتيجة أن النموذج المذكور يثبت بشكل عملي أن الاعتماد على زيادة
ضرائب الدخل على أصحاب الأعمال ، ومواكبة كل التطورات التكنولوجية ، ودعم الخدمات
الحيوية كالتعليم والصحة ، وعدم الاعتماد على الاستثمارات الأجنبية قصيرة المدى
والتي تأخذ طابع المضاربة لما يؤدي إليه هذا النوع من التدفقات المالية من نوبات رواج
مالي سريعة تعقبها نوبات تراجع عنيفة تمتد لفترات طويلة ، وهذا هو الحاصل اليوم في
معظم الأسواق العالمية ؛ كل هذه الشروط والقيم تسمح بتحقيق التكيف مع متطلبات العولمة .
.III وهل بوسع الدولة أن تراهن على تفعيل تراثها
القيمي بما يواكب تحوّلات العصر ؟
ـ
أولا: وظيفة
الدولة بين القانون والأخلاق :
1. الأركان القانونية
الأربعة للدولة : إن
الدولة لا تُعتبر التنظيم السياسي الوحيد ، بل سبق أن انتظمت البشرية قبل ذلك في
تنظيمات أقل كمالا كالقبيلة والعشيرة ، غير أن هذه التنظيمات عفوية وطبيعية ؛ أي
أن أعضاءها يرتبطون على نحو طبيعي برابطة النسب سواء أكان حقيقيا أو وهميا .
والحكومة " ..هي التنظيم العملي للدولة [...] فالدولة تجريد إلى حد كبير ،
ولكن الحكومة واقع يدرك بالحواس . والدولة دائمة وثابتة على حين أن الحكومة مؤقتة.
وإن التغيرات في شكل الحكومة لا تعني تغيرات في استمرار الدولة " .
والدول تتباين فيما بينها أكثر مما تتماثل ، غير أن هذا لا ينفي ضرورة حدّ
أدنى من المقومات المتماثلة ، وهي التي تعطي للدولة وجودها ، وأخصّ هذه المقومات :
السكان والإقليم والسلطة والسيادة :
أ- السكان : إن كل حديث عن الدولة هو حديث عن مجتمع منظم
سياسيا ، وهذا يعني أنه لا يمكن الحديث عن دولة إلا ونحن نتحدث عن أفراد مجتمع
ينتسبون إلى هذه الدولة ، سواء سمّيناهم شعبا أو مواطنين أو أيّ اسم آخر .
ب- الإقليم : إن الإقليم هو المجال الحيوي للدولة ،
ولهذا يمكن القول أنه لا وجود لدولة دون إقليم تسيطر عليه ومعترف لها به دوليا ،
فتتحدّد العلاقة بين الدولة والإقليم على أساس أنه "مجال سلطان الدولة"
أي المنطقة الجغرافية التي تمارس فيها سلطتها على الأفراد .
ج- السلطة : إن الحديث في السياسة هو حديث عن السلطة ،
لكون السلطة جوهر أي نشاط سياسي .
د- السيادة : لفظ السيادة يشير إلى
السلطة العليا المخولة لصنع القانون وفرضه، ولكنها لا تقتصر على استقلالية الدولة
في التشريع ، إذ يميّز فقهاء القانون بين مستويين من السيادة : السيادة الداخلية وهي "..المظهر الداخلي الذي
يتجلى في كونها المشرع الأعلى للشؤون الداخلية "،وأنه
" ..على جميع الأفراد والجماعات داخل الدولة أن يخضعوا لإرادتها "،
والسيادة الخارجية وتعني استقلال الدولة في قراراتها وتنظيم علاقاتها مع غيرها من
الدول .
2. وظيفة
الدولة من حيث هي حامية لقيم الفرد وراعية لها : إن الدولة كما تبين
ليست تنظيما طبيعيا ، ولا هي مصاحبة لكل اجتماع إنساني ، حيث أن المجتمعات
الإنسانية القديمة عرفت تنظيمات ما قبل الدولة ، سواء أكانت على صورة تنظيم قبلي
وتنظيم عشائري أو صورة التنظيم الذي عرفته المدينة اليونانية . ولما كانت الدولة
تنظيما طارئا أصبح من المشروع التساؤل : ما هي إذن مبررات وجود الدولة ؟
أ)- حماية القيم الفردية والدفاع
عنها : إن الذي يبرّر أي ممارسة سياسية تسلكها الدولة عند ميكيافلي-كما رأينا- هو
حماية نفسها وحماية مواطنيها من شر المواطنين أنفسهم ومن شر الأعداء الخارجيين
أيضا . وقد تحدث جون لوك أيضا عن الغاية القصوى للدولة معتبرا أنها قامت أساسا من
أجل حماية الأشخاص وممتلكاتهم وحريتهم ، " ..إذن فالغاية الكبرى الرئيسية من
اتحاد الناس بعضهم مع بعض لتشكيل دول ، ووضع أنفسهم تحت سلطة الحكومة هي المحافظة
علىما يمتلكون [...] فإن كل من كانت بيده السلطة التشريعية أو السلطة العليا لأية
دولة، كان لزاما عليه أن يحكم وفق القوانين الثابتة المستقرة المعلنة للشعب
والمعروفة منه ".
ب)- غاية الدولة رعاية الصالح العام : وهذا يعني أن
وظيفة الدولة لا تقتصر على ما هو سياسي بل تمتدّ لتشمل مجالات الحياة الاجتماعية
وتوفير الشروط الموضوعية للحياة الإنسانية الكريمة كما يتبين من رأي أرسطو
والفارابي . ويمكن تحديد وظائف الرعاية فيما يلي :
- الرعاية الاقتصادية : أصبحت الدولة مدعوة وبشكل ملحّ إلى التدخل في
الحياة الاقتصادية للمجتمع ،" ..وبقدر ما تتطور الحضارة تتجه الدولة إلى تحمل
عبأ إشباع الحاجات العليا والنبيلة للمجتمع مع تحمّل مسؤولية أكبر حيال الضعفاء
اقتصاديا من أعضائها " ، كما أن الواقع التاريخي يؤكد هذا ؛ حيث أغلب الدول
المعاصرة تنفق أموالا ضخمة في رعاية المصالح عامة للمجتمع ؛كالرعاية الصحية
والتربية و التعليم والترفيه والرياضة والسكن .
- الرعاية السياسية : وتتمثل في الهيمنة التي
تطالب بها وتمارسها الدولة على مجموع أعضائها ، وذلك من مقتضيات السيادة التي هي
مقوّم من مقومات الدولة؛ ومن الوظيفة السياسية أيضا التشريع للمجتمع ، وحمايته من
الأخطار الداخلية والخارجية ، ويلزم من هذا اضطلاع الدولة بتشريع الحقوق وحمايتها
.
ـ
ثانيا: من
مشروعية الحكم إلى عالمية النظام :
إن علاقة الدولة بالمجتمع تأخذ
صورا مختلفة وذلك باختلاف أنظمة الحكم وصور المشروعية فيها ، وكذلك تتعدّد بتعدّد
التصورات الفلسفية التي يتبنّاها هذا المجتمع أو ذاك حول مفهوم السلطة ووظيفتها :
1. أسس السلطة السياسية الفردية (الحكم المطلق) : إن الحكم المطلق
هو من أقدم صور تسيير شؤون الدولة والمجتمع ظهورا ، ولعلّه أقدمها على مستوى
الممارسة ، أمّا على مستوى التنظير الفلسفي فيعود إلى العهد اليوناني أو قبله
بقليل. ويعتبر هوبز من أبرز الفلاسفة الذين برّروا على نحو فلسفي ضرورة الحكم
الملكي المطلق وصلاحيته في تسيير شؤون الدولة ، وفرض الأمن والاستقرار . وانطلق في
تبريره هذا من فرضية : أن البشرية عرفت حالتين من الحياة الجماعية الأولى طبيعية
كانت خالية من السلطة ، وفيها لم يكن البشر يتحرّجون من الاعتداء على بعضهم البعض
؛ وهو الوضع الذي أدّى بهم إلى صيغة من الاتفاق يتنازلون فيها عن جميع حقوقهم لشخص
أو جماعة تكون قادرة على ردّ مظالم بعضهم بعضا ، وصاحب السيادة هنا - وهوالحاكم -
ليس مطالبا بشيء سوى توفير الأمن لمجموع المواطنين، وكل ما يصدر عنه لا يمكن
اعتباره ظلما ، لأن العدل والظلم هما ما يقرره الحاكم ؛ والذي يُلاحظ على هذا
النظام أنه قد لا يؤسس على الغلبة والقهر، بل على الرضا والعقد ، ولهذا يحقّ
للرعية أن تعزله في حالة واحدة ؛ وهي عندما يعجز عن حمايتها والدفاع عنها .
- ومن أنظمة
الحكم المطلق : الحكم الديني أو (الثيوقراطي) ، والحكم الاستبدادي :
فكان يُعتقد أن
الحاكم من طبيعة مختلفة عن المحكومين فهو من طبيعة إلهية أمّا ".. إرادته فهي
سامية لأنها إرادة إلهية عليا ، ثم تدرّج الأمر بعد ذلك إلى أن الله يختار الحاكم
اختيارا مباشرا ليمارس السلطة باسمه من الأرض " ، ثم أصبح الحاكم يختاره
الشعب ولكن بتوجيه إلهي ، وهذا الذي يُعرف (بنظرية الحق إلهي) ؛ وحكم المستبدّ من
أنظمته أيضا : وهو حكم ينفرد فيه الحاكم بالسلطة ، لكن لا يلزم عن ذلك بالضرورة
طغيان ؛ ولهذا تحدث القدامى عن المستبد العادل ، والمستبد المستنير ، وهو الذي لا
ينشغل بمصالحه عن مصالح شعبه .
2. أسس السلطة السياسية
الجماعية (النظام الديمقراطي) : إن المجتمعات القديمة عرفت صورا من التنظيم
السياسي الجماعي تماما كما عرفت التنظيم السياسي الفردي ؛ ولا فرق في هذا بين
مجتمع قديم وآخر جديد إلاّ في أساليب وتقنيات التسيير ، وحدثنا التاريخ عن الحكم
الجماعي في اليونان القديمة ، وهو ما اصطلح عليه بالديمقراطية .
ويعتبر جان جاك
روسو أبرز من أولى أهمية كبرى
للديمقراطية، والذي يميز مفهوم الديمقراطية عنده، السيادة والحرية والمساواة ؛
فالسيد الحقيقي في الحكم الديمقراطي هو الشعب، وأن هذا الشعب لا يمكن اختزاله في
جمع غفير من الناس، بل هو اجتماع بشري تراجعت فيه العلاقات التي يفرضها الواقع
لتحلّ محلها علاقات يفرضها الحق، وهكذا يبدو الشعب كجسم أخلاقي واجتماعي لا يقبل
الاختزال، تتجسد فيهما الحرية والمساواة بمعناهما الحقيقي، أما الحرية فهي حقيقية
لأن طاعة الفرد وخضوعه للقانون هو في الوقت نفسه خضوع لإرادته التي هي متضمنة في
الإرادة العامة التي شرعت هذا القانون، أما المساواة فهي مساواة أخلاقية ومشروعة
إذ تقررها الإرادة العامة ؛ ويُعتبر الشعب السيد الحقيقي وسيادته غير قابلة
للتنازل أو التجزئ وهي مطلقة لا تخطئ لأن العقد الاجتماعي يعطي لهذا الجسم
الاجتماعي سلطة مطلقة على أعضائه، والحكومة الديمقراطية في هذا المجتمع الديمقراطي
ليست سوى أداة تنفيذية تنفذ ما شرع الشعب (السلطة التشريعية) ، وهذا يعني أن
الحكومة تخضع للقانون مثل أي عضو آخر داخل الدولة قال روسو: " ..ليس تأسيس الحكومة
عقدا بل قانونا، وأن الذي تودع لهم السلطة التنفيذية ليسو أسيادا للشعب إنما
موظفوه، وبوسع الشعب رفعهم أو خلعهم عندما يرغب بذلك، والمسألة بالنسبة إليهم ليست
مسألة عقد على الإطلاق وإنما هي إطاعة القانون ".
ب)- الديمقراطية التمثيلية : لما كان من المتعذر جدا ممارسة الديمقراطية
المباشرة في مجتمعات كالتي نعيش فيها ، فقد اخترع البشر أسلوبا آخر لتنفيذ إرادة
الشعب وممارسة السلطة باسمه ، وتلك هي الديمقراطية النيابية ؛ أي أن يحكم الشعب من
خلال ممثليه الذين يختارهم عن طريق الانتخاب .
وفي الجملة فإن الديمقراطية التي يتحدث عنها المعاصرون هي ديمقراطية
(الحرية) و(المساواة) ، وهذان كانا سببا في تعدّد الديمقراطيات في الزمن الحديث
والمعاصر ، حيث تباين مفهوم المصطلحين من فلسفة إلى أخرى ، ولزم عن ذلك تباينٌ في
الممارسة الديمقراطية :
- الديمقراطية الليبرالية : وتقوم الفلسفة الليبرالية في المجال السياسي
على التوفيق المسبق بين مبدأين متعارضين ، فكرة استقلال الإرادة والعقل من جهة ،
وفكرة وجود قانون أسمى من جهة أخرى ؛ وهذا يثير لدينا سؤالا فلسفيا ملحّا حول
علاقة الفرد بالسلطة : كيف يمكن لأشخاص كان يُعتقد أن لهم حقوقا مطلقة ومتساويين
(في المرحلة الطبيعية) ، أن يخضعوا لسلطة سياسية دون نفي صفة الإطلاق والمساواة عن
حقوقهم ؟
إن السلطة من حيث هي سلطة
تطالب دائما أولئك الذين تمارس عليهم نفوذها بالخضوع لسلطانها ، ولكن الخضوع ليس
لشخص أو لأي جهة أخرى خارجة عن إرادة الأفراد ، بل الخضوع في الدولة الليبرالية هو
خضوع للقانون ويجب عدم الخضوع إلا لسلطة القانون .
لقد قامت الليبرالية على
افتراض أساسي وهو حرية الاختيار "..فنقلت مفهوم حرية المستهلك من مجال
الاقتصاد إلى مجال السياسة، فكما تصورت نظاما اقتصاديا يقوم على المنافسة [...]
تصورت أيضا نظاما سياسيا يقوم على حرية الاختيار بين الأحزاب والاتجاهات
السياسية". فالديمقراطية الليبرالية ذات " ..سلطة مفتوحة" لا تقضي
على الصراع داخل الدولة ، بل تؤسسه كي يتمّ في قنوات شرعية، ويلزم عن هذا أنه لا
يستقر أي حزب أو جماعة سياسية في السلطة على نحو دائم، وإنما تمارس السلطة على نحو
تداولي، والشعب وحده يقرر في كل مرة من يحق له أن يمارس السلطة باسمه، بحسب ما
يقدمه المتنافسون من مشاريع تعد بتقديم خدمات أكبر؛ ويلزم من هذا أن يكون الشعب
على قدر كاف من الوعي بحيث يستطيع المقارنة بين البرامج، والكشف عما هو قابل
للتطبيق ، وما هو مجرد وعود تستخدم من أجل مصالح شخصية وحزبية؛ فالديمقراطية
الليبرالية لا تجعل الدولة والأفراد في مأمن دائم، ومن جهة أخرى فإنه لا يكفي أن
تنصّ الدساتير والمواثيق القانونية على الحقوق حتى تتجسد الحرية التي يرفعها
الليبراليون شعارا، بل يجب أن يمكن الأفراد من القدرة على ممارسة تلك الحقوق.
ولهذا غالبا ما تكون الحرية الليبرالية حرية نصوص قانونية لا حرية واقع، ومن هذه
الجهة بالذات وجه الاشتراكيون سهام النقد لهذه الفلسفة.
- الديمقراطية الاشتراكية : إن
المجتمع الوحيد الذي تزدهر فيه الديمقراطية هو ذلك الذي تخلص من الطبقية ، فهو
وحده القادر على حل التناقضات التي ظهرت في المجتمع الرأسمالي ؛ فبمشاركة الجميع
في السلطة لا تعود الحياة السياسية حلبة صراع على نحو ما ظهر في المجتمع الرأسمالي
، بل بالعمل المشترك والإجماع تنشأ الوحدة بين أفراد المجتمع ، ويشيع التعاون
، وهكذا يضمن المجتمع الاشتراكي سيادة الشعب على نحو سليم ، ولا يمكن لأي كان أن
يتلاعب بالإرادة العامة ، وتحقيق هذا
المجتمع لا يكون في البداية عن طريق الاقتراع العام ، بل يجب بشيء من القوة أن
ينتقل من مجتمع برجوازي إلى مجتمع عمالي ، ولم
ينكر الاشتراكيون الطابع الديكتاتوري للدولة الاشتراكية الناشئة ، بل يرونه ضرورة
تضمن الوصول إلى مجتمع ديمقراطي حقيقي هو المجتمع الشيوعي ؛ والمثير للحيرة كيف
يمكن الجمع بين الديكتاتورية والديمقراطية في نظام واحد ؟
بالنسبة للاشتراكيين الأمر لا يستدعي الدهشة ، لأن الديمقراطية هي حكم
الشعب وإن تعذر فحكم الأغلبية ، والأغلبية هم العمال ، ولما كان البرجوازيون لا
يمكنهم قبول أن يؤول الحكم إلى العمال ، لزم اللجوء إلى القوة ، والحدّ من الحريات
لتحقيق ذلك ؛ والدولة عند أغلب المفكرين الاشتراكيين ليست ضرورة تحتمها الطبيعة
البشرية ، بل هي شر يجب زواله ، ولهذا فإن الدولة في المرحلة الاشتراكية تضعف
لتزول بعد ذلك في المرحلة الشيوعية ، ويتحقق المجتمع الديمقراطي . وينظر
الاشتراكيون للشعب على أنه وحدة متجانسة تجمع بينهم الظروف المادية ، ولهذا السبب
لم تكن فكرة التعددية واردة في الفكر السياسي الاشتراكي ، وعلى هذا النحو سيكون
متّحدا بالإضافة إلى كونه متجانسا ويمارس السلطة على نحو ديمقراطي من خلال مناقشة
القضايا العامة داخل تنظيم الحزب ، ولهذا لم يكن هناك مجال للمنافسة السياسية أو
فكرة التداول على السلطة ، ولا معنى للتداول على السلطة إذا كان الشعب برمته يحق
له ممارسة السلطة - طبعا داخل جهاز الحزب الواحد - ويلزم من هذا ألا مجال لحريات
سياسية عامة وخاصة شبيهة بتلك المعروفة في الديمقراطية الليبرالية .
ولكن الفلسفة
الاشتراكية كغيرها من أنماط الفكر الإنساني لم تكن ثابتة ، فقد عرفت انتقادات
وتحولات ، على نحو ما حدث بظهور (الديمقراطية الاجتماعية) ، بل ".. إن للبشر
تنوع مدهش في أهوائهم وأفكارهم ، وتعقد الحياة الإنسانية لا يسمح باختزالها ،
بصورة آلية وفَضّة ، إلى صيغة اقتصادية ".
1.
الديمقراطية بين القيم العالمية والخصوصيات
المحلية :
إن
العلاقات الدولية المعاصرة تعاني من أزمة أخلاقية يصعب تجاوزها بمجرد سن قوانين
دولية حتى وإن كانت هذه القوانين تجسد قانون المواطن العالمي ، ثم إن القول بفكرة
المواطن العالمي يجعل من فكرة السيادة متناقضة لأن دعوة الدول للخضوع لهذا القانون
وتجسيده في تشريعاتها تجعل السيادة لهذا القانون وليس لسلطة الدولة .
إن
الذي يجعل كثيرا من الباحثين يتحدثون عن إمكانية تطبيق الديمقراطية بل ضرورة هذا
التطبيق ، هو أنّ كثيرا من القيم التي جاءت بها الديمقراطية لا تتنافى مع ما في
قيمنا التراثية ، وعدم التنافي شرط كاف لقبول الوافد الدخيل
وتكييفه ليتّسق مع القيم السائدة في المجتمع .
ولكن
الديمقراطية هنا ليست طريقة في الحكم فقط ، بل ديمقراطية مؤسسة على القيم ، فنحن
إذن أمام قيم يفترض في الديمقراطية أن تكون تجسيما لها ؛ وهذه القيم هي الحرية
والعادلة والأخوة والمساواة ، وهي قيم غائية يتوق إليها الناس أكثر مما هي حقائق
محسوسة في حياتهم ؛ ولذلك يختلف الناس في تصورها وتطبيقها. ولكن إذا كان
التفكير في الديمقراطية بدأ مع بواكير عصر النهضة الحديثة ، فلماذا تأخر التطبيق
كل هذا الوقت ؟
وفي
الجملة فإن الديمقراطية ليست أسلوب حكم بموجبه يختار الشعب من ينوب عنه فحسب ، بل هي في الأساس
ثقافة وشعور ؛ ومن هنا تبدو بكل وضوح ارتجالية تلك المحاولة التي تريد إنشاء الوضع
الجديد في بلادها ، بالقياس على المنوال الذي تستعيره من بعض البلاد ذات التقاليد
الديمقراطية العريقة ؛ إن هذه الاستعارة تكون تارة لازمة ولكنها بكل تأكيد وحدها
غير كافية ، إن لم تصاحبها الإجراءات المناسبة لبثّ ما يُستعار في نفسية الشعب
الذي يستعيره ؛ فالشعور الديمقراطي ، والذي على أساسه يمكن قيام مجتمع ديمقراطي
ونظام حكم ديمقراطي، هو ذلك الذي ينقل الفرد داخل الدولة من فرد تابع لسيد أو ملك
، إلى مواطن صاحب إرادة حرّة ومستقلة ويحظى بالتكريم الإنساني .
وقد عرفت حضارتنا وتراثنا هذا النوع من المواطنة، تلك التي تجعل المواطن
قيمة في ذاته فيعامل من طرف الحاكم كغاية لا كوسيلة، وإن الثقافة التراثية تمدّنا
بمضادّات حيوية نواجه بها النزعات المنافية للشعور الديمقراطي، ولهذا يجب تفعيل
هذه القيم التي تساعد على تجسيد الديمقراطية في حياة الفرد والجماعة، لكن دون
الانغلاق على الذات، بل بالانفتاح على التجارب الإنسانية الرائدة في هذا المجال؛
إذ في بعض الأحيان تكون استعارة بعض القيم والوسائل من الأمم المعاصرة ضروريا لكن
بتوفير الشروط الذاتية والموضوعية المستمدّة من تجربة الأمة ذاتها؛ وبهذا فإن
قيمنا التراثية تجتمع فيها مزايا
الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية لكونها تقرّ بالحريات الفردية والجماعية، وتشرّع القواعد التي توفر الشروط الموضوعية
لتجسيد هذه الحريات؛ كالتكافل الاجتماعي والعدالة والمساواة.
خاتمة: حل المشكلة
نخلص ممّا تقدّم إلى أن قيمنا الخلقية المستمدّة من تراثنا الحضاري ومخزون العقيدة في الذاكرة الجماعية ، باعتبارها تتخلّل كافة تنظيماتنا الاجتماعية بدءاً من علاقاتنا الأسرية وصولا إلى نظمنا السياسية والاقتصادية ، تبقي منهلا نتشرّب منه ونبراسا نهتدي به كلما كنا في حاجة إلى التعامل مع تطورات العصر التي تلاحقنا في كل يوم ، كما تظل هذه القيم نفسها في حاجة دائمة إلى إعادة قراءة عميقة ومتأنية حتى تنشّط تفاعلاتنا كسلوك جماعي منظّم من جهة ، ولأجل تكييف مواقفنا مع ما استجدّ وما يستجدّ في الخارج من تحوّلات كبرى ، على أساس من التوازن والاعتدال والوسطية الفاعلة بين تراثنا الذي نعتزّ به ، ومكتسباتنا الثقافية العالمية التي نتطلع إلى الاندماج فيها ؛ وذلك رهانٌ لا بدّ من كسبه .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق