درس الذاكرة و التخيل في مادة الفلسفة للسنة الثالثة ثانوي

0

طرح المشكلة :   

       إذا كان الإنسان كائناً ينظّم حياته داخل شبكة نسيجها الماضي والحاضر والمستقبل . وهي حياة دوام واستمرار بين هذه الأبعاد  الثلاثة ، فإنه يدرك الحاضر ( الآن) حتى بعد انقضاء زمن حدوثه ،حيث يمكنه استرجاعه بصور متعدّدة وأحيانا تتدخل الإرادة والعقل في ذلك ، كما يمكن للإنسان أن يقوم بعملية تركيب لصور الماضي بدون أن يكون ذلك الماضي كما هو ، وذلك عن طريق بنائه من جديد إمّا بالإضافة أحيانا أو بالحذف أحيانا أخرى ، كما أن له القدرة على تجاوز الحاضر والماضي معاً ؛ فالإنسان مفطورٌ على ملكتي التذكر والتوقع .[1] والذي يقوم بهذه العملية المركّبة وظيفتان نفسيتان وعقليتان هما: الذاكرة والتخيل اللتان ترتبطان معا وتتداخلان.

     وانطلاقا من هذا التداخل بين الوظيفتين نتساءل : إذا كنا لا نستغني عن العالم الخارجي في نشاطاتنا الذهنية ، فإننا في استحضار ذكرياتنا وتحريك خيالاتنا ، نبني ونبدع. ولكن :

I. كيف يمكن اعتبار التذكر استعادة لما هو ماضٍ من أجل إعادة بناء ما هو راهن ؟

ـ أولا : من الفعالية العضوية إلى الفعالية الشعورية :

1. الخصائص العضوية للتذكر:

إن تفسير عمليات تثبيت واسترجاع الذكريات الذي يدافع عنه الفيزيولوجيون والماديون بشكل عامّ يتمثل في أن هناك أجهزة عضوية للذاكرة تخزّن فيها الحوادث التي تم إدراكها ، ومن ثم فهي بحاجة إلى وسائل للتخزين والحفظ على مستوى الدماغ من جهة ، وإلى وسائل لاسترجاع أو إخراج المعلومات من الذاكرة على المستوى نفسه من جهة أخرى . لكن كيف يفترض أن تتمّ هذه العمليات ؟

يعتقد ريبو مثلا ، أنه يمكن زرع الذكريات في منطقة مخصصة من دماغ الإنسان، والتي تتلقى المعلومات عن طريق حاسة السمع فتحفظ بسرعة لكنها ستكون عرضة للنسيان بسهولة لأنها محفوظة في ما يعرف بالذاكرة الحسية أو المخزن الحسي وهو شبيه بالصورة التي تبقى في المخيلة بعد النظر إليها . ولذلك إذا أراد الإنسان أن يثبّتها أكثر لابد وأن ينقلها إلى مايعرف بالذاكرة قصيرة المدى وذلك بالانتباه وبالتركيز لمدة قصيرة لتدخل مجال الوعي ، وحتى هذه العملية لا تحفظ المعلومات لوقت طويل . فنحن نعي الأفكار والمعلومات والحوادث لفترة ما ولكن لا يبقى منها إلا القليل الذي حُفظ أو كُرّر ؛  فإنها تُنقل إلى المخزن ذي المدى الطويل ، وهناك تُنقش على الدماغ في منطقة مخصّصة للذكريات . كما أن هناك اتّصالا بينهما ؛ فيمكن نقل ما هو موجود في المخزن ذي المدى الطويل إلى المخزن ذي المدى القصير .

وتظهر الفاعلية العضوية في عملية الاستعادة والاسترجاع ؛ فيحتمل أن يكون مكان الدراسة الذي التقت فيه بطلتا الوضعية المشكلة السابقة (وهو المدرسة الثانوية) قد لعب دور (المذكّر) أو (المنبّه) للتذكر ، والسبب الذي يُفسّر به ذلك هو أن المنبّه ينشط دوائر المخ العضوية التي تخزن فيها الذكريات ، والاسترجاع يتوقف على المنبّهات التي تكون أحيانا  كلمة ، أو إشارة ، أو فكرة ، أو مكانا ، أو صورة . وهكذا يتحدث العلماء  الماديون عن آثار الذاكرة المنقوشة على سطح المخّ ، رغم اختلافهم فيما يتعلق بشكلها .

تعقيب : إن الذاكرة في علم النفس هي حفظ الذات لتفاعلها مع العالم الخارجي مما يجعل في إمكانها ترديد واستخدام هذه النتائج في نشاط لاحق .

 ومن علماء النفس والفيزيولوجيا من يقرّ بالتمايز بين أنواع للذاكرة  انطلاقا من طبيعة كل منها ، ومن درجة وشدة التعقيد  والتداخل بينهما ؛ ومعنى هذا أن الاسترجاع - كما ذكر برغسون - ينتج عن المخروط الذي يحوي الذكريات المحفوظة في الأنا العميق ، والتي لا يصل منها إلى ساحة الشعور إلا التي لها دخل في النشاط الراهن . وهكذا من خلال تجربة التذكر، نتمكن من الشعور بالزمن الذي هو في الواقع شعور يتمّ في النفس ، ما دام الماضي لا يتجلّى فيه إلا من خلال الأحوال النفسية الراهنة   دائما . أما الفاعلية العضوية فتوضح لنا فقط الجانب المادي في آلية الذاكرة .

. الخصائص الشعورية للتذكر:

إذن الاستعانة بخبرات الماضي في حل مشكلة من مشكلات الحاضر، تسمى بعملية إعادة بناء حالة شعورية ماضية ، وهذه الحالة الشعورية إذن تسمح بالتعرف على مكونات الذاكرة، بينما الذاكرة فعل واعٍ قوامه  الشعور، وهو فعل حاضر يتعلق بالماضي ، ويتميز بطابعه الواعي ، ويمارس تأثيراً على العادة والتداعي والإدراك ، للحصول على صور يقوم بتصنيفها إلى تنظيمات محركة تختزن الماضي ، وتملك القدرة على إحيائه في الحاضر، إنها استبعاد لآثار العادة في مثل هذه الحالة، وبيان الدور الكبير الذي يلعبه الشعور في عملية التذكر ؛ وهذا ما يميّز الذاكرة عن العادة ، فالعادة فعل آلي .

       ـ ثانيا: التذكر بين المعرفة والتوازن النفسي:

 كما مرّ بنا (في المثال السابق) إن فعل الإدراك لا يتمّ إلا من خلال علاقة الموضوع بالذات المدركة ، حيث تتداخل كل الفاعليات العقلية من تخيل وانتباه وذكاء وتذكر لأجل تحقيق فعل الإدراك ، وتتداخل تلك الفاعليات العقلية لتشكل عنصر معرفة وإدراك العالم الخارجي ، مع ما يهدف إليه التوازن النفسي الذي يظهر على شكل انفعالات تلقائية تحقق تكيفا ذاتيا للفرد .

ويلعب فعل التذكر دورا هامّا في حياة الإنسان سواء من الناحية المعرفية أو الانفعالية والأفراد يختلفون في معارفهم وتوازنهم النفسي باختلاف القدرة على استدعاء ذكرياتهم، ولكن أين تكمن القيمة النفسية للتذكر؛ هل في دور العقل أم في دور الانفعالات التلقائية ؟.

 

1. الذاكرة العقلية والتذكر الإرادي :

  تعتبر الصور العقلية عونا للذاكرة ؛فالذات لا تدرك إلا بموضوع ، وهذا الموضوع ليس سوى خبرات وصور. و تسمى هذه الذاكرة،

الذاكرة العقلية: هي ذاكرة الأفكار والمعاني والبراهين سواء بالنسبة إلى أبعاد العلاقة المنطقية بين أجزاء الحادثة الواحدة ، أو أجزاء الحوادث الكثيرة ، كما أن للذاكرة العقلية أثر عميقا في مطالعة  الكتب واكتساب العلوم ، وهي هامة جداً عند الفلاسفة والعلماء ، لأنهم يتذكرون مثلما يتخيلون، وهذه الذاكرة العقلية تنضمّ إلى جميع أنواع الذاكرة فتؤلف معها كلا عضوياً واحداً .

-           التذكر الإرادي : وهو يقتضي تدخل مجموعة من الملكات العقلية والوظائف كالاستدلال، واصطفاء ما نبحث عنه وما هو مطلوب، والربط بين الصور، ومعرفة العلاقة بين السبب والنتيجة؛ وهذا مايعرف بالاستدعاء الإرادي .

 إن العقل بهذا يملك أسئلة يطرحها فتقوم الذاكرة بإحياء مجموعة من الصور والمعاني، وتعيدها إلى ساحة الشعور ليختار منها العقل ما يحتاج إليه وما يريده .

2. الذاكرة الانفعالية  :اختلف الباحثون في أمر الذاكرة الانفعالية ، فمنهم من قال أنها حقيقية  مثل ريبو، بناء على أن من خواص الأحوال النفسية عامة، سواء كانت عقلية أو انفعالية، ومنهم من أنكر وجود الذاكرة الانفعالية كوليم جيمس          لأن الشيوخ عنده لا يسترجعون انفعالات الشباب.

تعقيب: لكن اتفقوا على أن هذه الانفعالية تختلف باختلاف الأشخاص فقد تكون قوية واضحة، وقد تكون ضعيفة ، كما اتفقوا، بالمقابل، على دور الذاكرة في حياتنا الانفعالية " ..فلولا الذاكرة لجفّت العواطف ، ولولا الماضي لغاب عن الإنسان وجه التأسّي ؛ فالذاكرة تحيي العواطف، وتوقظ الميول ، وتجدّد الانفعالات " .      

والتذكر العفوي :

تظهر أهمية الذكريات وتصوّر الماضي أيضا في تكوين الشخصية ؛ فهوية الفرد إنما بدأت في الماضي، ومَن فقدَ القدرة على استرجاع هذا الماضي والوعي به فقدَ وحدة شخصيته وفقدَ توازنه النفسي.     

    - التذكر العفوي: إن حقيقة الذاكرة كاسترسال شعوري واحد في الاستعادة اللفظية والتصورية، تؤلف معها كلا عفويا واحداً، سواء أكانت تحت سيطرة الانفعال أو بدونها. فكيف يتمّ سريان هذا النوع من التذكر ؟

النتيجة الجزئية01:

    إن الذاكرة ثلاثة أنواع أساسية وهي : الحسية ، والعقلية ، والانفعالية ؛ بالرغم من أنه ليس بينها مماثلة ، لأن لكلّ من هذه الأنواع صفات خاصة تختلف من نوع إلى آخر ، ولكنها في حقيقتها الجوهرية واحدة.   

ـ ثالثا: الذاكرة الفردية والمجتمع :

   - يرى (علماء النفس) أن فعل التذكر تابع للاهتمامات الخاصة بكل فرد بحسب انفعالاته ، وذوقه ، قدراته العقلية ؛ فاتجاه الطالب إيجاباً نحو المادة التي يتعلمها ، والرغبة فيها تزيد من قدرته على تذكرها والعكس ، والمخزونات لدى الطالب غير ما لدى الطبيب ، وغيرها لدى الفلاح...الخ . ولكن في نفس الوقت فإنه يربط ماضيه وذكرياته بالمؤسسات وبالأعياد والمناسبات التي تعاقبت عليه،  فما هو الأثر الذي يمكن للمجتمع أن يتركه على الذاكرة ؟

     إن الذاكرة بوصفها أولية ، ومركبة ، ومتنوعة ، تمثل ضمن العمليات الإدراكية-كما رأينا- قنوات اتصال تربطنا بالعالم الخارجي، وما ينطوي عليه من مظاهر وأشياء، وهذا الاتصال يُترجم إمّا إلى وعي ومعرفة وإرادة ، وإمّا إلى انفعال عفوي وتوازن نفسي. وعلى الرغم من أنه من المتفق عليه أن بعض أنواع الذاكرة تخصّ الشخص كفعل يتعلق به، وبأحواله النفسية من ميول ورغبات واهتمام

- يتعلق بالأحوال المادية الفيزيولوجية من جهة أخرى.

الاتجاه الاجتماعي:

أن علماء الاجتماع يعتقدون أن التذكر فعل لا يرتبط بالفرد فقط، بل أيضا بالمجتمع الذي يعيش فيه ؛ إذ هو جزء من واقع عام اجتماعي ، وهناك مفاهيم ومعارف مشتركة بين أفراد المجتمع .

     إن المجتمع لا يمكن أن ننظر إليه على أنه حصيلة اجتماع أفراد فقط ، بل هو سلطة مستقلة ومتعالية عن الأفراد ، فالظواهر الاجتماعية تمتاز بموضوعيتها ، كما يرى دوركايم ( Durkheim1858-1917) ، وأنها مزوّدة بصفة الجبر والإلزام ، وهي من نتاج العقل الجمعي وتنشأ تلقائيا من اجتماع الأفراد، بل أن سلوك الانسان لا يمكن تفسيره إلا من خلال صورة مجتمعه . وعلى هذا الأساس ذهب هالفاكس ( Halbwachs1877- 1945) إلى أن ذكرياتنا ليست حوادث نفسية محضة ، أو مادية ترتبط بالدماغ ، بل هي تجديد بناء الحوادث بواسطة الأطر التي يمدّنا بها المجتمع ، فالآخر هو الذي يدفعنا إلى التذكر لأنني في أغلب الأحيان عندما  أتذكر ، فإن الغير هو الذي يدفعني إلى ذلك ، لأن ذاكرته تساعد ذاكرتي ، كما أن ذاكرتي تعتمد عليه . فالتذكر في هذه الأحوال على الأقل يصبح مفهوما ؛ إذ الجماعات التي انتمي إليها تقدّم إليّ في كل لحظة الوسائل التي أستعيد بها الذكريات شريطة أن التفت إلى هذه الجماعات ، وأن اتبنّى على الأقل مؤقتاً طريقتهم في التفكير حين تتجلّى في شهادتهم القيم التي يؤمنون بها ، والتي تلوّن الشهادة بألوان الوضعية التي تندرج فيها الشخصية.كما أن الناس الذين يحيون حياة اجتماعية يستعملون كلمات يفهمون معناها ؛ وهذا هو شرط الفكر الجماعي ، غير أن كل كلمة تصاحبها ذكريات، وليس هناك ذكريات لا يمكن أن نطابقها بكلمات؛ إننا ننطق بذكرياتنا قبل استحضارها، واللغة وجملة نسق الاصطلاحات الاجتماعية التي تدعمها هي التي تمكننا في كل لحظة من إعادة بناء ماضينا .

إذن : يتبلور تأثير البيئة الاجتماعية في الذاكرة ، في أن الفرد في تفاعله مع بيئته تلك لا يستجيب لمثيرات مستقلة عن بعضها ، وإنما لعدة ضوابط لسلوك الإنسان على ضوء علاقته الصميمة بمجتمعه ؛ أي أنه من خلال طبيعة الموقع الذي يأخذه الإنسان في مجتمعه تتحدّد ملامح  ذاكرته ، والفرد مدين للمجتمع  ، وهو تلميذه وصنيعته .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

II . وكيف يمكن اعتبار التخيل استشرافا لما هو آتٍ بغيةَ إبداع صورٍ لما هو واقع ؟

طرح المشكل:

ـ أولا: الاسترجاعية والاستمرارية في التخيل :

1. الاسترجاعية بين التخيل والتذكر :

إن الفرق لا يظهر بجلاء بين الذاكرة والخيال لأنهما يتعلّقان في بعض الأحيان معاً بالماضي ، فإذا كان التخيل يعود إلى الماضي كما هي الحال في التذكر ، إلا أن التذكر يقوم بحفظ الأفكار واسترجاعها وفق ترتيب معيّن على المنوال الذي يكون العقل قد حصل عليها بدرجة من الحيوية والقوة والوضوح ، بينما يتميز التخيل عنه بالحرية في التصرف في الأفكار ، فهناك حالات نفسية لا يمكن أن تكون تذكراً بالرغم من أنها شبيهة بالتذكر ، ولكنها لحظات مملؤة بالتخيل لأنه يضيف إليها ما يزيدها كمالا ومتعة أو العكس ؛ هذه الحالات هي التي تمكننا من التفريق بين التخيل وبين التذكر مثل الذاكرة التي تستعيد الماضي في الحاضر وتعيشه وبالتالي فهو يضيف إلى الماضي من الرغبات والصور ما يجعله مُسترجعاً أجمل أو أبشع مما كان عليه  تبعاً للحالة النفسية التي يكون عليها المتخيل .

2. الاستمرارية بين التخيل والإدراك :

 ليس للعقل الحرية في أن يخلق موضوعات إدراكه ويبدعها على النحو الذي تفعله   المخيلة ، فعندما يتمّ إدراك الموضوع فإن ذلك يختلف عن تخيله ؛ إذ يكون إدراك الموضوع دائماً على الصورة التي هو عليها كصورة قوية وحقيقية ؛ أي التي يتواجد بها مفروضاً على الذات المدركة سواء رضيت أم لم ترضَ ، أمّا في تخيّله فللذات المتخيّلة الحرية في التصرف على النحو الذي ترغب فيه ، وبالصورة التي تشاؤها ، وفي الوقت الذي تريده ، حتى وإن كانت الصورة فيه خافتة وباهتة ووهمية . فالإدراك يرتبط بوثوق بالواقع المباشر ، ومع ما هو حاصل فعلا كما رأينا، أما الخيال - وإن كان يستمدّ عناصره من الواقع- فهو يكوّنه على صورة جديدة  كما أنه قد يتوجّه إلى المستقبل وليس إلى الماضي ؛ كأن يتصوّر عن طريق التخيل نفسه ما يطمح إليه في المستقبل.

ومع أن هذه العناصر يستمدّها الخيال من الماضي والحاضر ، فهي لا شك تنصهر في كلّ جديد يجعلها في آن واحد عملية استرجاعية واستمرارية كحالة نفسية خاصة ومتميزة .

 ـ ثانيا: التخيل من التمثيل إلى الإبداع :

ليس التخيل صورة واحدة فهو معانٍ مختلفة ، وهناك من يربطه بحالة عادية من حالات استرسال النفس في ربط الصور لمجرد التعرّف عليها وتمثيلها ، وثمة من يراه ملكة تركيب لتلك الصور بإبداع الجديد منها . لكن ألا يدعونا هذا إلى التساؤل

1. التخيل التمثيلي أعمّ أنواعه :

إن في هذا الوصف صورة شبيهة إلى حدّ كبير بصورة الاسترجاع ، إنها استرجاع صور بعد غياب الأشياء التي أحدثتها ، وفيه إشارة إلى أن صورة شيء بعينه يتمّ تخيلها وتمثلها لا إدراكها مباشرة . وهذا النوع من التخيل يتعلق بمجرد عودة الصور النفسية إلى ساحة الشعور دون التعرف عليها ، كما هو الحال في التداعي ، وهو عامّ في حياتنا اليومية .

2. التخيل المبدع أخصب أنواعه :

لقد بين الفيزيائي (تندول) أهمية الخيال في  تاريخ الإبداع العلمي بقوله :

" كان انتقال (نيوتن) من تفاحة ساقطة إلى قمر ساقط عملا من أعمال الخيال المتأهب ، وقد منحت الطبيعة (دافني) موهبة تخيلية غزيرة .

إن هذا النوع من التخيل ، في كلتا الحالتين ، يُعرف بالتخيل الإبداعي ؛ ففي بعض الأحيان يلجأ الإنسان إلى تركيب الصور ليستخرج منها نموذجاً جديداً يتجاوز بها الواقع وينفلت منه ، ويمكن أن نستنتج من ذلك أن الخيال وضع نفسي كلي فعّال ؛ فهو كليّ كالإدراك ، والإنسان يستشير النفس كلها في رغباتها وآمالها، وفي عواطفها وانفعالاتها ، كما في أفكارها ومعانيها ، وهو فعال لأنه إنشاء ، وقد يترتب عليه سلوك ما . وهذا النوع من التخيل لا يخص مجالا بعينه ، بل نجده في حياتنا العملية ونجده أيضا في الحياة النظرية العلمية ؛ في العلم والسياسة والفن والفلسفة .

ـ ثالثا: الصور الإبداعية وصناعة الواقع :

 إن هذه الصورة المتخيّلة تلعب دوراً في صناعة الواقع حتى وإن كانت متوهَّمة " ..إننا لن نعرف حقيقة العالم ، فلننظر أيّ التصورات التي نتوهّمها أقدر على التعبير عن العالم ، والعقل يتصرّف كما لو كان العالم هكذا ، وبهذا وضع فلسفة الأوهام التي تعني إهمال الواقع والانفصال عنه لينصبّ الاهتمام على تشييد كيانات ذهنية ، لكنها مفيدة على خلاف الأوهام الأسطورية ". 

- لكن ما هي أبرز شروط التخيل الإبداعي ؟

يرتدّ الإبداع أوّلا إلى عوامل نفسية (عقلية وانفعالية) ؛ إذ غالبا ما تكون حالات الاختراع نتاجَ تفكير فردي واعٍ " .. يبدأ بادراك الصعوبة والمشكلة التي تكون بمثابة الحافز ، ويتبع ذلك انبثاق حلّ مقترح في الذهن الواعي ؛ وهنا يظهر العقل ليفحص الفكرة  إمّا ليدحضها أو ليقبلها " .  وهكذا يكون المخترع فيها تحت تأثير فكرة تستحوذ عليه كفرض أوّلي لكن دون أن تتسلّط عليه أكثر مما يجب ، ليستخلص منها النتائج ثم يختبر تلك النتائج .

لكن هناك من يردّها إلى العوامل الموضوعية التي تتمثل في الحاجة الحيوية والطبيعية والاجتماعية ، وهي تمثّل عاملا ودافعا للإبداع ؛ إذ المبدع هو ابن البيئة التي يعيش فيها ، ومن ثمّ فإبداعه هو نتاج الظروف المحيطة به من جهة ، وما يحتاج إليه المجتمع من جهة أخرى ، كما نلاحظه في سير العلماء والفنانين في فترات الإبداع التاريخية الزمانية والمكانية .

ونخلص إلى أن المتعارف عليه على نطاق واسع هو الاعتقاد بأن الإبداع يتمّ من خلال كل ذلك ، فتتدخل في صقله كل الفاعليات العقلية والنفسية والحيوية والاجتماعية بفضل الخيال الذي يتولّى الاختبار النقدي لما يُنتج ؛ إنه المهندس الذي يضع مُصمَّم النظرية أو الأثر الفني .

***

.III ولكن لماذا لا يتمّ بناء هذه الذكرى وإبداع تلك الصورة إلا بشكل نسبي وتقريبي ؟      

ـ أولا: الذاكرة بناء غير مكتمل للماضي :

تقديم مقتطف من نص لاعترافات روسو.

إن إعادة بناء الماضي تتمّ هنا من خلال عمل تقوم به المخيّلة ، أي  من خلال تذكر الملامح البارزة مع الميل إلى تضخيمها وتشويهها . والتذكر ليس إحياء للحالات السابقة بذاتها ، وإنما هو إبداع حالات جديدة مشابهة للحالات الماضية ، وكل حالة نفسية حاضرة فهي جديدة بالنسبة إلى ما قبلها سواء كانت عقلية ، أم انفعالية ".. فعندما يكون المرء تحت سيطرة الانفعالات تتعزّز قدرته على الاحتفاظ بالذكريات وتسلسل الأحداث ، بينما يتسرّب النسيان تدريجياً الى أحداث محايدة من الناحية الانفعالية تكون أحداث أخرى أقلّ تأثراً بالنسيان . ومن هذا المنطلق فان ذكرى الأحداث الانفعالية تبدو لنا إذن أقوى حدة وأكثر تذكرا " .

وهكذا فإن هذا القصور في عمل الذاكرة يُترجم إلى ظاهرتي النسيان وأمراض الذاكرة :

 

    1. آلية النسيان :

إن النسيان ظاهرة ملازمة لحياة الإنسان ، لكنه أحيانا يكون طبيعياً وضرورياً لحياة الإنسان وللتكيف كما هو سائد عند عامة الناس ، وأحيانا أخرى يكون مرضياً إذا ما تجاوز حدوده المعقولة ومستوياته العادية خاصة في تحصيل العلم ؛ إذ (آفة العلم النسيان) كما يقال .  

2. أمراض الذاكرة :

إن الذاكرة تُصاب بأمراض تهدّد توازن الشخصية ووحدتها ، وأشهر هذه الأمراض :

- صعوبة التذكر: ينشأ عن عجز في تثبيت الذكريات نتيجة مرض يصيب الجملة العصبية يكون مؤقتاً أحيانا مثل المصاب بالحمى الشديدة ، أو شبه دائم كما في أعراض الشيخوخة .

- فقدان الذاكرة : ويعني اضمحلال الذكريات والعجز عن استحضارها واسترجاعها ، وقد يكون الفقدان جزئياً ومؤقتاً أي لمدة محدّدة من الوقت أو لبعض الأنواع من الذكريات كالأسماء ، أو الأماكن ، أو المهن ، أو فقدانا لحلقة زمنية من الماضي ، كما قد يكون العجز عامّا لجميع الذكريات .

     - انحراف الذاكرة : وهو مرض الذاكرة الكاذبة ينشأ عن فساد العرفان ، حيث يورد المصاب باستمرار خبرات خاطئة ومحرّفة ومشوّهة ، وهو لا يعلم أنها كذلك .

     - فرط التذكر : وهو قوة استدعاء الذكريات بجزئياتها وتفاصيلها من الماضي القريب والبعيد ، ويعرف أيضا بمرض تضخم الذاكرة الشائع خاصة عند المتقدّمين في السن .

نستنتج إذن أن هذه الأمراض ، فضلا عن النسيان المرضي ، تجعل الذاكرة وظيفة تعيق التكيّف ، وتهدّد توازن الشخصية ونشاط الإنسان . أمّا النسيان الناتج عن طبيعة الذاكرة التي لا تستطيع أن تحتفظ بكل ما يمرّ بها من حوادث فقد رأينا أنه ضروري لحياة الإنسان .

         

ـ ثانيا: التخيل من الحلم إلى الوهم :

على الرغم من أن الخيال - كما مرّ بنا- مصدر الإلهام في البحث عن المعرفة الجديدة ، إلا أنه يمكن أن يكون مصدراً للخطر أيضا كصورة من صور فرط التخيل التي يعيشها البعض من الناس ؛ وهذا النوع من التخيل هو الذي دفع بالبعض  إلى وصفه بالقوة الوهمية الكاذبة التي تولّد الأحلام والأوهام ، وتبعث على الخطأ والرذيلة .

 - أحلام اليقظة : يمكن اعتبار الحلم من الوجهة النفسية نشاطاً عقلياً طبيعياً يحدث أثناء النوم ، ولا يمكن اعتباره أداة واعية ، بل هو سلسلة من الحوادث اللاشعورية التي يمكن أن تكون لها دلالات أو رموز يتمّ بلوغها بالتفسير والتأويل . لكنّ هناك نوعاً من الحلم هو مايعرف بـ (حلم اليقظة) الذي يحدث عندما يعيش الإنسان الموقف بجسمه فقط ويزول شعوره بالحاضر وانتباهه لوضعه وللأشياء المحيطة به ، فتندفع الصور الخيالية إلى ساحة الشعور فيشرُد الذهن ، وينسلخ عن العالم الخارجي ويستغرق الإنسان حينها في خواطره .

- الوهم والهلوسة : من الأمراض النفسية التي يعاني منها البعض جرّاء فرط الخيال ، وهناك تشابه بينهما ؛ فالوهم خطأ في حقيقة الشيء لكن ليس عن طريق خطأ الحواس ، بل هو نتاج التخيل في شكل مرض عصبي ؛ كأن يتوهّم الإنسان نفسه حيوانا ، أو يتوهّم الحيوانات التي تطهر له فجأة أشباحاً .

وهكذا قد لا يكون التخيل وسيلة للإبداع وصناعة الواقع بقدر ما يكون أداة للإفلات من الواقع وتجاوزه بدون أي هدف يحققه الإنسان من ورائه ، بل هذا النوع من التخيل هو علامة على مرض في الشخصية ، لكن الأكيد أنه ليس بمقدور أيّ شخص أن يتخيّل أشياء بما ليس في الواقع ، فمهما بدت صورة التخيل غريبة عن الواقع إلا أن عناصرها تُستمدّ من الواقع .

 

خاتمة : حل المشكلة

إن الحديث عن الخيال يقتضي لا محالة الحديث عن مشكلة الذاكرة ، إذ من الصعب تصور حياة نفسية ، مقصورة على مطلق الحاضر ، أي على إدراك نقطة رياضية تفصل الماضي عن التخيل . فالخيال هو الصورة الباقية في النفس بعد غيبة المحسوس عنها ، ولو اقتصرنا في حياتنا النفسية على الحاضر المطلق ، لكان التفسير غير ممكن ، لأن الذاكرة هي التي تصل الحاضر بالماضي ، بينما الخيال هو قوة للنفس تحفظ ما يدركه الحس المشترك من صور المحسوسات بعد غياب المادة . ومن هنا أمكننا القول أن الخيال يرتبط بالذاكرة منطقياً ، ويختلف عن الذاكرة التي تحمل طابع الماضي ، على حين أن الخيال غير مقيد بالزمان لأنه قد يعود إلى النفس ألف مرة من غير أن يلبس ثوب الماضي .

وما نخلص إليه في الأخير هو أن العالم الخارجي ودرايتنا به يشكّلان كلاّ موحّداً ، فقد اتّضح لنا بكل جلاء ، من خلال ما تطرّقنا إليه ، أنه لا جدوى واقعياً من التفريق بين الذاكرة والخيال ، وأن ما نطلق عليه بالذاكرة الخالصة أو الخيال المجرّد لا وجود له ، وأن الذاكرة منبع للخيال بصورة آلية بقدر ما تشكل هي منطلقاً له كفعل ناتج عن نشاط عقلي بصورة جزئية أو كلية ، فهما إذن في علاقة جدلية متفاعلة على الدّوام .

 



[1]- كولن ولسون ، فكرة الزمان عبر التاريخ ، ت / فؤاد كامل ، سلسلة عالم المعرفة ، الكويت ، 1992، ص ، 5. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظه © القانون والتعليم

تصميم الورشه