الرقابة القضائية على اتفاقية القواعد التشريعية واللائحية في القانون الجزائري

0
الرقابة القضائية على اتفاقية القواعد التشريعية واللائحية
ترتيبا على القيمة القانونية للقواعد الاتفاقية الدولية وسموها على القواعد التشريعية طبقا لمادة 132 من دستور 1996، فإن هذه القواعد الدولية تكون واجبة التطبيق أمام القضاء الداخلي متى تم التصديق عليها وفق للشروط والإجراءات الدستورية، وهو ما ذهب إليه المجلس الدستوري الجزائري في قراره الأول لسنة 1989 ([1]) إذ جاء في إحدى حيثياته :" ونظرا لكون أية اتفاقية بعد المصادقة عليها ونشرها تندرج في القانون الوطني وتكتسب بمقتضى المادة 123 من الدستور – لسنة 1989 والمقابلة للمادة 132 من دستور 1996 – سلطة السمو على القوانين وتخول كل مواطن جزائري أن يتذرع بها أمام الجهات القضائية " وهو ما استجاب له القضاء المقارن – وخصوصا الفرنسي ([2])– وبعده القضاء الجزائري إذ اعتمد على المعاهدات كمصدر للمشروعية وقام بتطبيقها واستبعد القواعد التشريعية  أو اللائحية الداخلية التي جاءت متعارضة مع تلك المعاهدات، ولكن هذا الاجتهاد القضائي
مازال محل جدل وتردد إن في ساحة الفقه أو القضاء حول اختصاص القضاء الداخلي برقابة مطابقة القانون للمعاهدات  (الفرع الأول) وسلطات القضاء في تكريس سمو المعاهدات (الفرع الثاني) وطرق حل الإشكاليات التي تثار أمام القضاء في هذا الصدد (الفرع الثالث) .

الفرع الأول
تكريس اختصاص القضاء برقابة اتفاقية القانون
إن تحقيق سمو المعاهدات على القانون،وبالتالي عدم مخالفة القوانين واللوائح للمعاهدات الدولية التي صادقت عليها الجزائر وفق الشروط و الإجراءات الدستورية، يفرض وجود نظام رقابي يكفل مطابقة القوانين الداخلية لتلك المعاهدات، فما هي الجهة المختصة بهذه الرقابة ؟
إن الإجابة عن هذا التساؤل تفرض تحديد طبيعة العيب الذي يلحق القانون أو اللوائح إذا جاءت مخالفة للقواعد الاتفاقية الدولية والذي يسميه الفقه بعيب عدم الاتفاقية([3])  le vice d l’inconditionnalité  هل هو عيب عدم الدستورية أم عيب عدم المشروعية؟
 بالرجوع إلى الاجتهاد القضائي الفرنسي باعتباره السباق في هذا المجال فإن الملاحظة التي نكتشفها هي أن موقفه كان يكتنفه الغموض إلى غاية صدور قرار: Nicolo الشهير في سنة 1989 والذي اعترف فيه مجلس الدولة الفرنسي بدوره في رقابة احترام سمو المعاهدات على القوانين، فبصدد الطعن الذي رفعه السيد Nicolo واستند فيه إلى مخالفة القانون الداخلي الفرنسي للاتفاقية المؤسسة للإتحاد الأوربي ، واجه مجلس الدولة إشكالية من حيث تسبيب الحكم فهل يستبعد الوجه المثار أي لا يفحص تماشي القانون مع اتفاقية روما مثل ما ذهب إليه في اجتهاده السابق؟ أم يغير اجتهاده ويفصل في هذا الدفع؟ كان الرأي الذي اقترحه مفوض الحكومةFrydman    هو أن يراجع المجلس قضاءه ومما قال :
« En considérant que cette loi n’est applicable que parce qu‘elle                          est précisent conforme a ce traité »([4])
 وهو ما فعله مجلس الدولة بالفعل، إذ قضى بأن القانون المؤرخ في 7/7/1977 المتعلق بالانتخابات يطبق لعدم تعارضه مع اتفاقية روما، وكان هذا قرارا مبدئيا، وشكل انقلابا قضائيا لكونه أول قرار ينظر فيه المجلس في مدى تطابق القانون الداخلي مع معاهدة سابقة، وفتح الاحتمال أمام إمكانية استبعاده إذا كان مخالفا لاتفاقية نافذة ولو كانت سابقة على القانون، لقد ألقى هذا القضاء بعبء كبير على القاضي الإداري ذلك أن سمو المعاهدات يستمد أساسه من نص دستوري، وهو ما قد يؤدي إلى فحص مسائل دستورية، حال كون المستقر عليه في قضاء مجلس الدولة انه غير مختص بذلك، ولهذا كان مجلس الدولة يرفض رقابة مطابقة القانون اللاحق لمعاهدة سابقة، لكن بمنسابة قضية Nicolo رأى المجلس بأن تهربه من مواجهة الموقف سيؤدي إلى شل تطبيق نص المادة 55 من الدستور التي تكرس سمو المعاهدات على القوانين، لذلك كان مضطرا إلى استبعاد القوانين اللاحقة التي تخالف معاهدة نافذة متخذا موقفا مشابها لموقف استقر عليه القضاء العادي منذ 1931 في قضية Matter([5])  ومسايرا للدعوى غير المباشرة للمجلس الدستوري الذي أعلن عدم اختصاصه بالموضوع إذ صرح في قراره([6]) رقم 74/54 المؤرخ في 15/01/1975 بأن قانونا متعارضا مع المعاهدة لا يعني انه مخالف للدستور، وبذلك استبعد الاتفاقيات من بين القواعد المرجعية للرقابة الدستورية، وقد أسس المجلس الدستوري موقفه هذا على أن قراراته المتعلقة بالرقابة تحوز طابعا مطلقا ونهائيا بينما سمو المعاهدات على القوانين المكرس بالمادة 55 من الدستور يعد ذا طابع نسبي ومحدود، إضافة إلى أن تطبيقه معلق على شرط المعاملة بالمثل .
إن موقف مجلس الدولة في قضية Nicolo قد أثار نقاشات حادة خاصة في ما يتعلق بالنتائج الناجمة عن هذا الاتجاه الجديد ، فإعطاء نص المادة 55 امتدادها الطبيعي من حيث التطبيق يؤدي إلى خرق نص مادة دستورية أخرى وهي المادة 21 وذلك من خلال التعديل غير المباشر لإلتزمات السلطة التنفيذية تجاه القانون،فيكون مجلس الدولة أعطى الأولوية لمبدأ تدرج القوانين على مبدأ تدرج السلطات([7])
 "Le juge administratif fait prévaloir le principe de hiérarchie des normes sur la hiérarchie des organes normateurs , il semble même établi une hiérarchie entre différentes normes constitutionnelles au profit de l’article 55 de la continuation"  ([8])
وبعد عرض الموقف الفرنسي،  يثار التساؤل عن الجهة التي تضمن احترام القوانين واللوائح للمعاهدات في الجزائر في ظل دستور 1996 ؟
 لعل أول ما يبرز في هذا المجال هو موقف المجلس الدستوري الجزائري في قراره رقم 01 لسنة 1989 والمتعلق بدستورية المادة 86 من قانون الانتخابات لسنة 1989 والتي تحدد الشروط الواجبة في المترشحين لانتخابات المجلس الشعبي الوطني، ورغم كون إخطار المجلس كان يستهدف مدى مطابقة المادة 86 لقواعد الدستور فإنه لم يكتفي بذلك إذ أعلن عدم مطابقة المادة المذكورة للمادتين 27 و 47 من الدستور، وأضاف تبريرا إضافيا يتعلق بعدم مطابقة هذه المادة مع اتفاقيات دولية صادقت عليها الجزائر، ومما جاء فيه:" ونظرا لكون أية اتفاقية بعد المصادقة عليها ونشرها تندرج في القانون الوطني وتكتسب بمقتضى المادة 123 من الدستور -  لسنة 1989 و تقابل المادة 132 من دستور 1996- سلطة السمو على القوانين وتخول كل مواطن جزائري أن يتذرع بها أمام الجهات القضائية" و بعد أن قرر  المجلس أن عهدي الأمم المتحدة لسنة 1966 والميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان " تمنع منعا صريحا كل تمييز مهما كان نوعه " وتأسيسا على ذلك نطق المجلس بعدم دستورية المادة 86 من قانون الانتخابات، فالمجلس الدستوري قام بمراقبة دستورية قانون الانتخابات ليس فقط بالنظر على الدستور وإنما أيضا على ضوء المعاهدات الدولية التي أبرمتها الجزائر.
وهذا الموقف يقودنا  إلى النتائج التالية :
-1إقحام المعاهدات في الكتلة الدستورية، وهو ما يجعل رقابة المطابقة بين القوانين والمعاهدات من اختصاص المجلس الدستوري .
-2دعوة الجهات القضائية للاضطلاع بصلاحية إعمال مبدأ أولوية تطبيق المعاهدات على القوانين في حالة التعارض، وذلك من خلال السماح للموطنين الجزائريين بالاحتجاج بأحكامها أمام القضاء الوطني، وبالتأكيد لم يكن قصد المجلس الدستوري تخويل هذا الحق للمواطن الجزائري وحده دون الأجانب ، وإلا عد ذلك تمييزا قد يرتب المسؤولية الدولية للجزائر، ولكن سياق هذا القرار كان يتعلق بممارسة إحدى الحريات العامة المكفولة للمواطنين دون الأجانب.
ولا شك أن هذا القرار يثير التساؤل عن حجيته في ظل دستور 1996 ؟
إنه من خـلال الفصل الأول يتبين أن الكتلة الدستوريـة تتضمن الدستـور بديبـاجته ونصـوص مواده، إضافة إلى المبادئ العامة للقانون ذات القيمة الدستورية، أما القواعد الاتفاقية الدولية فهي تخضع للقواعد الدستورية كونها أقل منها من حيث المرتبة الإلزامية، فلا يمكن إدماجها في نفس الكتلة، ضف إلى ذلك أن المعاهـدات تخضع للرقابة على دستوريتها من طرف المجلس الدستوري، وأن إدماج المعاهدات ضمن الكتلة الدستورية سوف يفرض على المجلس الدستوري فحص مطابقة القوانين واللوائح المعروضة عليه لكل المعاهدات النافذة في الجزائر، وهو ما سيؤدي إلى شل أعمال المجلس الدستوري .
واستنادا إلى قرار المجلس الدستوري سالف الذكر، فإن المحكمة العليا كرست في عديد قراراتها اختصاصا برقابة مدى مطابقة القوانين الداخلية للمعاهدات النافذة بالجـزائر، ومن هـذه القرارات، القرار المؤرخ في 22/02/2000 ([9])، والذي اعتمدت فيه المعاهدات كمصدر للشرعية الجنائية إذ قضت الغرفة الجزائية بصحة الحكم بمصادرة المبالغ المحجوزة والتي حصل عليها المتهمون من خلال بيع المخدرات، فاعتبرت  المصادرة عقوبة مشروعة، نظرا للنص عليها في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الاتجار غير المشروع بالمخدرات والمؤثرات العقلية التي صادقت عليها الجزائر بموجب المرسوم الرئاسي رقم : 95 /41 المؤرخ في 28 /01 /1995 وهذا رغم النص عليها في قانون الصحة رقم 85/05 الذي توبع المتهمون. والقرار الثاني صدر عن الغرفة المدنية للمحكمة العليا في 05/09/2001([10]) والذي استبعدت فيه المحكمة العليا نص المادة 407 من قانون الإجراءات المدنية المتعلقة بالإكراه البدني لمخالفته لنص المادة  11 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. وهو ما أكدته بقرار لا حق بتاريخ :11/12/2002.([11]) فالمحكمة العليا تمسكت باختصاصها برقابة مدى مطابقة القوانين للاتفاقيات الدولية النافذة بالجزائر تلقائيا ووصلت لحد استبعاد القانون المعارض للاتفاقية، بل إلى حد التطبيق المباشر لنص من المعاهدة وفي الميدان الجزائي الذي يخضع لمبدأ الشرعية حسب المادة الأولى من قانون العقوبات.ولا شك أن مجلس الدولة سوف يمشي في نفس الطريق لو طرح عليه الأمر.
الفرع الثاني
سلطات القضاء في رقابة اتفاقية القانون
خلافا للقاضي العادي الذي لا يملك سوى استبعاد القانون أو اللائحة المخالفة  للاتفاقيات، يملك القضاء الإداري عدة وسائل في إطار رقابته على اتفاقية القوانين واللوائح وذلك من خلال المنازعات المعروضة عليه، سوء في إطار رقابته الشرعية (أولا) أو المسؤولية (ثانيا)  ولذلك سوف نركز على سلطات القاضي الإداري([12]) .
أولا : سلطات القضاء الإدراي في إطار منازعات المشروعية :
ترى الأستاذة Etienne picard   بأن أثار تصريح القاضي بمخالفة نص ما لاتفاقية دولية تختلف اعتبارا لأربعة عوامل هي طبيعية القاعدة (دولية أم لائحية)، شكل قـاعدة الداخليـة (قانون أم لائحة)، تاريخ سن هذه القاعدة الداخلية مقارنة بالمعاهدة ، موضوع  الطعن أمام القاضي.
والجمع بين هذه العناصر يضع القاضي الإداري أمام عدة حالات :
الحالة الأولى: إذا تعلق الأمر بقرار إداري لا حق بمعاهدة دولية ، وتعارض معها ، فإن القاضي ملزم بإلغائه إذا كان الطعن فيه متعلقا بفحص المشروعية .
الحالة الثانية: إذا تعلق الأمر بقرار سابق على  معاهدة دولية وكان متعارضا معها ، فإن هذه المعاهدة قد تؤدي إلى إلغائه ضمنا وقد لا تؤدي إلى ذلك ، فإذا كان القرار تنظيما فإنه يمكن للقاضي وقف سريانه طالما أن القاعدة الدولية كانت نافذة :
 « Si l’acte est réglementaire il pour oit en effet n’être que supendu tant que la règle internationale  resterait applicable dans l’ordre interne »
لكن القاضي ملزم بالتصريح بالإلغاء وإبطال كل المراسيم التنفيذية التي تصدر بصفة لاحقة للمعاهدة ، وتكون مخالفة لها.
الحالة الثالثة: إذا تعلق الأمر مخالفة قانون لمعاهدة فإن سلطة القاضي تبدو ضيقة، فإذا كان القانون سابقا للمعاهدة فلا يملك القاضي إلا معاينة الإلغاء، وذلك منذ إدماج القاعدة الدولية في النظام الداخلي، ومن ثم فمن واجب القاضي الإداري التصريح ببطلان كل المراسيم التنفيذية لهذه القوانين.
الحالة الرابعة: أما إذا صرح القاضي بطريقة غير عادية بسمو قاعدة دولية على تشريع نافذ، فلا يمكنه في أفضل الأحوال إلا أن يصرح بعدم إمكانية تطبيق هذا الأخير([13]). ويبقى التساؤل قائما حول الحجية التي يتمتع بها هذا التصريح ؟
وبالتأكيد فإن أوجه الإلغاء أو عدم المشروعية هي نفسها المتعلقـة بمخالفة القـرارات للقوانين الداخلية، أي عيب عدم الاختصاص أو عيب الشكل والإجراءات أو عيب مخالفة القانون أو عيب السبب أو الانحراف بالسلطة، ومرد هذا التشابه هو تقارب القواعد الدولية مع القواعد الداخلية من حيث المحتوى.
ثانيا: سلطات القضاء الإداري في إطار منازعات المسؤولية:
ويختلف الوضع حسب حالتين، تتمثل الأولى في المسؤولية عن أعمال السلطة التشريعية (I) والثانية المسؤولية عن أعمال السلطة التنفيذية (II)
 -Iالمسؤولية عن أعمال السلطة التشريعية: لقد صرح مجلس الدولة الفرنسي منذ قراره في قضية Driancout([14])  أن كل حالة عدم مشروعية تشكل خطأ، فهل أن كل خرق من المشرع لأحكام اتفاقية ما يشكل خطأ يؤدي بالنتيجة إلى مسؤولية الدولة ؟
لقد تردد مجلس الدولة في الحسم في هذا الأمر، فلم يصرح بالمسؤولية المباشرة للدولة عن أعمال السلطة التشريعية، إلا في مجال فرق مبدأ المساواة أمام الأعباء العامة، كما فعل في قضية لافلورات([15]) الشهيرة، وهي فرضية لا تنطبق إلا على حالات قليلة لخرق القواعد الدولية .
ومرد ذلك إلى كون القانون يمثل تعبيرا عن الإرادة العامة فاستفاد هذا الأخير (القانون) بنظـام تفضيلي، سيما على صعيد المسؤولية على حد تعبير Morange :
«la loi a longtemps bénéficie d’un régie juridique de foreux y compris en matière de la responsabilité  » 
إن نظام المسؤولية بدون خطأ عن أعمال السلطة التشريعية يبدو محدد الأفق ليس فقط بسبب قلة السوابق في هذا المجال فقط- 03 حالات حسب الأستاذ Michelet - ولكن بسبب الشروط الخاصة لإقامة هذه المسؤولية، والتي لا تتماشى مع اغلب حالات القوانين المخالفة للاتفاقيات، وخاصة فيما يتعلق بشروط الضرر، الذي يستوجب القضاء أن يكون جسيما جسامة غير عادية، وذا خطورة استثنائية préjudice caractère anormal et spéciale  وعلى ذلك فإن مسؤولية الدولية عن القوانين المخالفة للاتفاقيات لا تجد لها أساسا في نظام المسؤولية الإدارية، بل تبدو فقط نتيجة منطقية أفرزها قرار Nicolo.
ومن هنا نخلص إلى أن الأساس  الحالي للمسؤولية عن طريق مبدأ سمو القواعد الاتفاقية الدولية إنما يتمثل في المسؤولية الخطئية عن قواعد تنظيمية غير مشروعة  la responsabilité pour faute
du fait de l’application d’un règlement  ([16])                                                
-IIالمسؤولية عن إعمال السلطة التنفيذية: وهي المسؤولية التي كرسها مجلس الدولة الفرنسي في قراره المبدئي الصادر سنة 1992 في قضية (  Société Arizona Tobacco produits  ) حيث
رتب المجلس مسؤولية الإدارة على أساس الضرر الناجم عن المرسوم التطبيقي الصادر في  31/12/1976 الذي يحدد أسعار بيع التبغ بطريقة تتعارض مع تعليمة دولية صادرة في 19/12/1972، علما أن هذا المرسوم إنما صدر مجرد تطبيق لقانون داخلي تضمن أحكاما تتعارض مع الاتفاقية، وعليه يظهر أن القاضي قد أجبر على تحليل هذا الضرر بأنه ناتج عن المرسوم بينما عدم مشروعية هذا الأخير إنما هي نتيجة لتعارض القانون الذي سعى إلى تطبيقه مع تلك التعليمة الدولية .
نخلص إلى القول أن مسؤولية الدولة عن القوانين التي تخرق المعاهدات لا تجد أساسها في المبادئ التقليدية للمسؤولية الإدارية ، التي بات من الواجب توسيع إطارها لتحتوي التغيرات الحديثة للعلاقات الدولية المتجسدة باتفاقيات دولية في شتى المجالات القانونية، ولعله يصلح في هذا الإطار ما قررته محكمة العدل للمجموعة الأوربية في قضية فرانكوفيتش، فقد اعتبرت أن قانون الاتحاد الأوربي يفرض على الدول الأعضاء إصلاح الأضرار اللاحقة بالأفراد نتيجة خرق القانون الاتحادي، وذلك من خلال تبني نظام تعويض خاص بكل دولة ، شريطة أن يكون هذا النظام فعالا ، إذا جاء في حيثياته:   
« C’est dans le cadre du droit national de la responsabilité qu’il incombe      l’état de réparer les conséquences du préjudice cause » ([17])                                                               
        وبعد أن تم عرض عصارة اجتهاد القضاء الإداري الفرنسي، فإنه يمكن القول أنها تصلح للاستعانة بها من طرف القضاء الإداري الجزائري فيما قد يطرح عليه من نزاعات، خصوصا في ظل تزايد عدد المعاهدات المصادق عليها من طرف الدولة الجزائرية، فتسمح له بأن يكون ضمانة حقيقية  لحماية مبدأ التدرج  القانوني الذي يعد احد دعائم دولة القانون.
الفرع الثالث
الإشكاليات التي تثار أمام القاضي بصدد رقابة اتفاقية القانون
   إنه من السهل أن نقول بان المعاهدة تصير قانونا بتمام الإجراءات المقررة لحصولها على ذات قوة القانون، فتتداعى بذلك النتائج وتحل المشكلة التي يثيرها الفقه بصدد اختلاف الطبيعة ما بين المعاهدات والقوانين الداخلية، ولكن الحقيقة غير ذلك فإنشـاء القـانون شيء واستعـارة قوته شيء أخر، ولا يستوي في النهاية وبإطلاق ما أنشأته إرادة دولة واحدة بنتاج توافق إرادات الدول، والنص الدستوري نفسه لم يقل أن المعاهدة قانونا، وإنما فقط واستجابة لطبيعتها الخاصة منحها قوته تتقدم بها في التطبيق فوق القانون الصادر عن البرلمان في تدرج القواعد القانونية، وعندما تسمو المعاهدة على القانون لا يكون لها ذلك إلا بنص في الدستور، وما كانت المعاهدة لتحتاجه لو كانت بطبيعة ذاتية تغنيها عنه، وما اشترطه الدستور من إجراءات تدخل بها المعاهدة في النظام الداخلي هو إعلان بان قدومها هو بإذن السيادة الوطنية وليس مفروضا لمقتضى خضوع مباشر للقواعد الدولية، يؤكد أيضا أن المعاهدة تخالف في النهاية القانون الداخلي، ولا شك أن هذه الطبيعة المتميزة للمعاهدات تثير أمام القاضي وهو يتعامل معها إشكاليات تتميز بخصوصياتها عن الإشكاليات التقليدية التي كان يواجهها القضاء، وهو ما يفرض على القاضي لعب ادوار جديدة لحل تلك الإشكاليات، والتي قد تتعلق بمسائل خارجة عن مضمون المعاهدة (أولا) أو متعلقة بمضمونها (ثانيا) .
أولا: الإشكاليات غير المتعلقة بمضمون المعاهدة:
يواجه القاضي أثناء تعامله مع المعاهدات عدة مسائل تتعلق بمدى إلزامية تطبيقها ([18])، وتتمثل في :
- إشكالية إجراءات التصديق التي فرض الدستور توفرها كشروط لصيرورة المعاهدة أقوى من القانون، وبالتالي فهل للقضاء الولاية لمراقبة مرسوم المصادقة؟ هل جاء صحيحا أي تم احترام الإجراءات الدستورية السابقة المتمثلة في الموافقة البرلمانية الصريحة أو عرضها على المجلس الدستوري وقراره أنها مطابقة للدستور؟
- وهناك إشكالية النشر، فهل يشترط لنفاذ المعاهدة أم لا ؟ و هي الإشكالية التي سبق عرضها سابقا.
- وإشكالية التحفظ، فمن حق الدولة أثناء إعلان التزامها بالمعاهدة أن تقرر بإرادتها المنفردة تحديد آثار بعض البنود من المعاهدة أو استبعادها، فما هو دور القاضي حيال هذا الوضع؟ ألا يعد ملزما به لكونه من أعمال السيادة؟ وإذا صدرت إعلانات تفسيرية في شكله لكنه في حقيقته تحفظ، فما دور القاضي هنا ؟
ثانيا: الإشكاليات المتعلقة بمضمون المعاهدة:
فإذا خلص القاضي من الإشكاليات والمصاعب سالفة الذكر واستطاع حلها، فإنه سيقف أمام إشكاليات أخرى تتعلق بمضمون المعاهدة وتتمثل في إشكالية التفسير(I) وإشكالية القابلية للتطبيق المباشر(II)
I- إشكالية التفسير([19]):  فهل يختص القاضي به أم لا؟ وكيف سيقوم بتفسير النص الاتفاقي الدولي؟
باعتبار أن الاتفاقيات تبرم من قبل السلطة التنفيذية، فقد اعتبر أنهـا الهـيئة الوحيدة المؤهلة لتفسيرها، وخوفا من التدخل في العلاقات الدولية بين السلطة التنفيذية والسلطات الأجنبية، حرص القاضي على إحالة مسألة التفسير إلى وزارة الشؤون الخارجية وكان ملزما به، وهو ما درج عليه القضاء الفرنسي التقليدي، لكن قضية  Gisti ([20]كانت المناسبة التي تمسك فيها مجلس الدولة الفرنسي باختصاصه في تفسير النصوص الاتفاقية الدولية،حيث أعطى المجلس التفسير الذي رآه ملائما دون أن يرى نفسه ملزما بالتفسير الوزاري، وبقراره هذا أكد مجلس الدولة الفرنسي أن هناك مشكلة تفسير كانت قائمة في هذا الخصوص، وان المجلس قد سمح لنفسه بتقدير مدى صحة التفسير الوزاري، ليستخلص بالتبعية ما يراه هو نفسه من تفسير للنصوص محل النزاع ويبني قضاءه عليه، وانه تبعا لذلك يكون قد استقر مبدأ اختصاص القاضي الإداري بتفسير المعاهدات الدولية، ومعنى ذلك أن مسألة تفسير المعاهدات قد خرجت من طائفة أعمال السيادة وفقدت حصانتها.
وبالنسبة للقضاء الجزائري فالمحكمة العليا كانت لها مناسبة للتمسك باختصاصها بالتفسير، ويتعلق الأمر بالقرار المؤرخ في 11/12/2002  ([21]) والذي يتعلق بطعن بالنقض في قرار وقع الإكراه البدني عليه لعدم وفائه بدين تجاري وأسس قضاة المجلس قرارهم على أن المادة 11 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية تتعلق بالحقوق المدنية فحسب، فقامت المحكمة العليا بتفسير نص المادة 11من الاتفاقية المذكورة، ومما جاء في القرار:
  "وبعد الإطلاع على أحكام المادة 11 من الاتفاقية المذكورة أعلاه والتي جاء فيها ما يلي: (لا يجوز سجن أي إنسان لمجرد عجزه عن الوفاء بالتزام تعاقدي) وتبعا لذلك أصبح من غير الجائز توقيع الإكراه البدني لعدم تنفيذ المدين لالتزامه التعاقدي.
وحيث أن مصادر الالتزامات ، تنقسم إلى مصادر إرادية ومصادر غير إرادية ، وأصبح -ومنذ انضمام الجزائر إلى تلك الاتفاقية - غير جائز تنفيذ الالتزامات الإرادية - سواء كان مصدرها معاملة مدنية أو تجارية – عن طريق الإكراه البدني.
 وحيث انه كما هو ثابت في وقائع القضية أن الالتزام المراد تنفيذه مصدره معاملة تجارية أي عقد تجاري.
وحيث أن المادة 11 المشار إليها أعلاه لا تميز بين الالتزام التعاقدي التجاري وغير التجاري، فيكفي أن يكون هناك التزام تعاقدي سواء كان موضوع هذا الالتزام معاملة مدنية أو تجارية، فيمتنع تنفيذ هذا الالتزام عن طريق الإكراه البدني ..."
II-إشكالية القابلية للتطبيق المباشر: فإذا خلص من مشكلة التفسير، واجهته مشكلة أخرى، وهي كيفية التعامل مع المعاهدة أي مدى إمكانية تطبيق نصوصها مباشرة؟ أم ينتظر صدور القوانين والتنظيمات الكفيلة بذلك؟
لقد كانت قضية Yeter Cinnar ([22])  المناسبة لمجلس الدولة الفرنسي لتغيير اجتهاده بصدد مسألة التطبيق المباشر للمعاهـدات، إذ بدل الارتكـاز على معايـير عادة ما عرقلت مسألة التطبيق المباشر، وخصوصا المعيار الشخصي والمتمثل في البحث في نية الأطراف، بالرجوع إلى الأعمال التحضيرية مثلا ، فقد انصب اهتمام مجلس الدولة على دراسة مضمون نص المعاهدة المطروح عليه تطبيقها، فاعتمد على المعيار الموضوعي، والمتمثل في دقة ووضوح هذا النص، والغرض منه هدف ملموس، وهي المعالجة القانونية التي أدت به إلى الفصـل بيـن نوعين مـن القـواعد الاتفاقية الدولية، فبعضها تطبق تطبيقا مباشرا، والأخرى لا يمكن تطبيقها مباشرة، فقرار سينار أعلن عن عهد قانوني وقضائي جديد في مجال التعامل المباشر مع المعاهدات الدولية.
ولعل الموقف القضائي الجزائري في القرارات الصادرة عن المحكمة العليا بغرفتيها المدنية والجزائية -سالفة الذكر- دليل آخر على أن القضاء صار متمسكا بأهليته للتطبيق المباشر لنصوص المعاهدات الدولية طالما كانت قابلة لذلك، دونما انتظار للقوانين أو التنظيمات الداخلية التي تجعلها نافذة .



[1]-  المجلس الدستوري ، قرار رقم 1 المؤرخ في 20/08 /1989(ملحق 01).
[2] -ce .sec,1er mars 1968.syndicat des général des fabricants de semoules de France , Weil et autres , les grands arrêts , p 743 : «  le législateur en adoptant une loi contraire a un traité préecscristant , a méconnu la hiérarchie des normes fiscée par l’article 55 de la constitution . » 
[3]- Karim Michelet , la loi in conventionnelle , R.F.D.A.N1 /2003. P 23 est
[4] -محمد عبد الباسط ، المرجع السابق، ص 126.
 Cir , 22 dec 1931 , couch Matter , note Niloyet , cite par Karime Michelet , op. cit. p 2.-[5]
[6] -ويتعلق الأمر بإخطار المجلس الدستوري للنظر في دستورية القانون المتعلق بالتوقيف الإرادي للحمل ومدى تماشيه مع الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان ، لاسيما المادة منها .
[7] - والحقيقة أن الرقابة القضائية ستؤدي إلى محدودية رقابة الاتفاقية لسنة أحكام القضاء ولعدم إمكانية إلغاء القوانين المخالفة للاتفاقية بها عكس رقابة المجلس الدستوري ، أنظر : David Bailevl le juge admistratif et la couventoinalite de loi , vers une remise en question de la jurisprudence Nicola , R.F.D.N.S /2003 – p876 et s , Etienne picard , la jurisdiction administrative au regard du adroit international , op cit , p 44.                                                                                                        
[8] -Karime , Michelet , op. cit. , p 26.
[9] - م ع .م رقم 167921 . ق في 22/02/2000 قضية (م ع ومن معه) ضد م ق 2/2000 ص 206 (ملحق 02) .
[10] - م ع .م رقم 254633 . ق في 05/09/2001 غ م سلم لطلبة القضاة في مادة علاقة القانون بالقاضي الداخلي ، السنة الثانية الدفعة 14 السنة 2005 / 2006(ملحق 03)
[11] - م ع . م رقم 288587 ق في 11/12/2002 قضية ( ي ي ) ضد (خ ب ) م ق عدد 1 / 2003 (ملحق 04)
[12] - وقد أغفلنا الحديث عن دور مجلس الدولة في إطار اختصاصه الاستشاري لكونه ذو طابع استشاري فحسب ولخروجه عن الوظيفة القضائية بمفهومها الدقيق.
[13] - Etienne picard , IBI D , p 42 et s
[14] - Etienne picard , IBID , , p 43 , et s .
[15] - مسعود شيهوب ، المسؤولية عن الإخلال بمبدأ المساواة وتطبيقاتها في القانون الإداري دراسة مقارنة  د م ج 2000 ، ص 96 وما بعدها
[16]- Karime Michelet, op.cit , p 27.
[17]- C j ce. 19 Nov 1991, francovich et bonifaci cité dans : / Du louis, la responsabilité  de l’état législateur pour les dommages causés aux particuliers par la violation du droit communautaire et son incidence sur la responsabilité de la communauté, R.F.D.A .1996, p582.
[18]-محمد فؤاد عبد الباسط، مرجع سابق، ص 10و ما بعدها.
[19]-محمد فؤاد عبد الباسط، نفسه، ص 14 و ما بعدها.
[20]-RGDIP., 1990, N03, pp 879-911 ; Rec., 1990, pp 171-183
نقلا عن محمد فؤاد عبد الباسط، ص 20 و ص 155 و ما بعدها.   
[21]-المحكمة العليا ملف رقم 288587 قرار بتاريخ 11/12/2002 بقية (ي ي) من (خ ب) م ق عدد 1/ 2003 ص 201 و ما بعدها (ملحق 04).
[22]-لعرابة أحمد، تطبيق و تفسير الاتفاقيات الدولية من قبل القاضي الداخلي، مطبوعة سلمت في إطار التطبيق مادة علاقة القاضي الداخلي بالقانون الدولي، السنة 2004/2005 للطلبة القضاة السنة 02  الدفعة 14 ، ص 493. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظه © القانون والتعليم

تصميم الورشه