مدخل عام (النفس عالم غامض):
لقد تعددت البحوث حول الكشف عن أغوار النفس البشرية وأحوالها المتقلبة منذ بدأ الإنسان في التفكير حيث شكل ذلك مبحثا فلسفيا محوريا (مبحث الوجود) اشتغل به مختلف الفلاسفة الكلاسيكيين والمحدثين ثم تطور وتقدم بشكل لافت منذ انفصال علم النفس عن الفلسفة في بدايات القرن التاسع عشر كعلم له وسائله وأدواته المنهجية والتحليلية الخاصة فتجذرة موضوعاته بالأساس في اختراق التفسيرات الميتافيزيقية التأملية وتقديم بدائل موضوعية لوعي النفس وعالمها الغامض من شعور ولا شعور
مفهوم الشعور:
يعرفه جميل صليبا بأنه < إدراك المرء لذاته و أفعاله إدراكا مباشرا > ومن خلال هذا التعريف تتبدى لنا خصائص الشعور فهو:
أ-معرفة ذاتية:
ومعنى هذا أنه من غير الممكن للغير أن يشعر بما أشعر به في ذاتي ولا يمكن له معرفته إلا عندما أكشف عنه بنفسي فكل عواطفي وذكرياتي هي أحوال شعورية خاصة بي فهي عالمي أنا وحدي ولا يمكن لأحد الإطلاع عليها بصورة مباشرة إلا أنا بالمقابل لا يمكن لي على ما يجري في أعماق غيري
ب- معرفة أولية مباشرة:
فهو إطلاع مباشر على ما يجري في النفس دون واسطة و النفس لا تحتاج إلى برهنة فحوى شعورها لأنها تدركه بالحدس
درجات الشعور:
أ-الشعور التأملي:
وهو الذي يتمركز الشعور فيه حول موضوع واحد معين بذاته مع إهمال باقي الموضوعات كالتلميذ عندما يركز شعوره حول سؤال الامتحان فإنه يهمل جميع ما يحيط به
ب-الشعور الهامشي:
وهو شعور بسيط وخالي من التفكير لإهتمامه بموضوعات متعددة في وقت واحد لا يمكن استيعابها دفعة واحدة
طبيعة الشعور:
أ-التغير والحركة :
فالشعور لا يعرف الثبات وهو دائم التغير باستمرار فلا نكاد نثبت على موضوع واحد إلا لوقت قصير فقط
ب-الاتصال والديمومة:
بالرغم من تغيره فالشعور تيار متدفق باستمرار لا يعرف التوقف والسكون
ج-نشاط كيفي:
فالأحوال الشعورية كيفية توصف ولا تقاس فليس هناك مقدار كمي حسي للشعور لهذا نسأل الشخص كيف هو شعورك؟ وليس كم هو شعورك؟
مفهوم اللاشعور:
هو مجال خفي من النفس الإنسانية
مليء بالميول والشهوات المخفية والذكريات المكبوتة التي تؤثر في سلوكنا دون وعي منا
الوضعية المشكلة:
في كثير من الأحيان نقدم على سلوكات تبدر منا دون وعي أو إرادة
ولدينا الكثير من الميول والرغبات النفسية التي نجهل أسبابها
في كثير من الأحيان تأتينا في النوم أحلام نعجز عن فهمها.
إذا كانت هذه الاستجابات مخفية أسبابها وعجزنا عن تفسيرها فهل يعني هذا أن للنفس الإنسانية جانب مخفي لا يمكن الإطلاع عليه؟
ثم إذا كان الشعور مصاحبا للحياة النفسية الواعية فلماذا يعجز عن تفسير كل تصرفاتها؟هل هذا يعني وجود مجال مخفي من الحياة النفسية لا نشعر به؟ وهل هذا يجعل من اللاشعور حقيقة علمية أم أنه يبقى مجرد فرض فلسفي لا غير؟
الشعور كمبدأ وحيد للحياة النفسية:
يقدم ديكارت نظرية في الشعور وثيقة الصلة بنظريته في النفس والثنائية والتي تجعل من النفس والبدن جوهران مستقلان ومتمايزان يؤلفان جوهر واحد في نفس الوقت هو الإنسان فالأول طبيعته الفكر بينما الثاني يقوم على الامتداد فلا توجد خارج الحياة النفسية إلا الحياة العضوية الفيزيولوجية وينطلق ديكارت في تحديد موقفه من وعي الذات من مسلمة رئيسية ومحورية مفادها أن <كل ما هو نفسي شعوري بالضرورة> وبتالي فما لا نشعره ليس من الحياة النفسية في شيء لأنه لو كان منها للزم شعورنا به فمن التناقض القول بأن النفس تشعر بما لا تشعر فهي تشعر لأن الحادثة التي تشعر بها موجودة أما إذا كانت غير موجودة فإنه يستحيل الشعور بها لأن الشعور يتسع لكل الحياة النفسية وهو مستقل عن البدن فما لا يقع تحى الشعور ليس نفسي بل فيزيولوجي مرتبط بالبدن ومن هنا يؤسس ديكارت مسلمته الأساسية الثانية وهي < مجال الحياة النفسية مطابق لمحال الشعور ومساوي له تماما> وبتالي فما ليس شعوري ليس نفسي بالضرورة وهي الصورة المقابلة للمسلمة الأولى وفقا لمبدأ المخالفة ومنه فالنتيجة اللازمة من كل هذا هي أن الشعور يؤدي إلى معرفة كاملة بأحوال النفس (وليس معرفة ناقصة كما يرى فرويد الذي يبقي مجال اللاشعور كجزء من مجال النفس مخفي وغامض عن الشعور والوعي ) ولما كان الشعور معبرا عن ماهية النفس وملازما لها فإن النفس البشرية لا تنقطع عن الشعور والتفكير إلا متى انعدم وجودها ويدعم ألان هذا الطرح عندما يحكم باستحالة تصور عقلا لا يعقل ولا نفسا لا تشعر حيث يقول <إن الإنسان لا يستطيع أن يفكر دون أن يشعر بتفكيره > ولما كان وجود النفس هنا مرادفا للوعي بها فمن التناقض القول بوجود حوادث نفسية لا نشعر بها لأن هذا يعني عدم وجود النفس إطلاقا ويستثني ديكارت من ذلك بعض النشاطات الفيزيولوجية الآلية التي تحدث دون وعي منا كانقسام الخلايا الجسمية وتكاثرها
ونستنتج من كل هذا أن الشعور يبقى مبدأ وحيد للحياة النفسية فبنسبة لهذه النظرية لا يمكن أن نفكر أو نريد أو ننفعل دون أن نشعر بذلك
مناقشة:
اللاشعور كأساس نفسي عميق مؤثر في السلوك
-مقدمات إكتشاف اللاشعور والتحليل النفسي:
لم تظهر فكرة اللاشعور مكتملة الوجود منذ البداية كما أنها لم تكن أيضا مجهولة تماما على الأقل عند بعض علماء النفس والأعصاب منذ القرن الثامن عشر فقد تطورت وتنامت في أحضان جهود وأبحاث نفسية عدة سبقتها ومهدت لها الظهور فمن المتعذر إنكار التأثير المباشر لمنهج التنويم المغناطيسي منذ أن ابتدعه مسمر سنة 1780م في بلورة فكرة اللاشعور وسارت على نهجه المدارس المتناظرة المشهورة في فرنسا حيث وظف هذا المنهج في علاج أعراض الهستريا ووصلت شهرة شاركو عميد مدرسة باريس إلى فرويد طبيب الأعصاب في فينا ما جعله يسافر إليه ويتتلمذ له لمدة سنة كاملة وقف فيها على عدة حقائق مهمة منها أن الأفراد الذين يمكن تنويمهم مغنطيسيا عميقا كانوا عرضة لإصابات الهستريا غير أن الفكرة الأهم هي تلك الملاحظة التي قدمها له شاركو والتي سيبني عليها فرويد نظريته في اللاشعور وهي أنه في كل أحوال الأمراض العصبية يوجد دائما وأبدا اضطراب في حياة الفرد الجنسية وقد أفاد فريد من جهود بيير جانيه تلميذ شاركو والذي وصل إلى أن المصاب بالهستريا يستطيع بفضل التنويم أن يستعيد الأحداث التي لم يكن يستطيع أن يقف عليها في حالة الصحو فالصدمة الانفعالية إذا كانت قد نسيت تماما في حالة الصحو يسهل تذكرها ووصفت تماما أثناء التنويم وأكثر من هذا أن هذا التذكر ينتج عنه زوال أعراض الهستريا لكن الأكيد أن فرويد لم يأخذ من أحد أكثر مما أخذ من زميله يوسف بروير حيث عملا على طريقة جديدة كانت اقترحتها في الأصل إحدى مريضات بروير حيث طلبت منه أن يتيح لها أثناء التنويم عن مشاكلها الانفعالية فإنها تتحسن وبتأثير التنويم تذكرت أيضا الأحداث المنسية التي تتعلق بحياتها النفسية فزالة عنها أعراض المرض فواصل فرويد وزميله في توظيف هذه الطريقة الجديدة التي تستخدم التنويم مقرونا بالتحليل وأسموها بالتنفيس العقلي
مسلمات التحليل النفسي:
ا-القول بوجود عمليات نفسية لا شعورية :يستند التحليل النفسي إلى فرضية أساسية مفادها وجود حياة نفسية لا شعورية إلى جانب الحياة النفسية الشعورية وأن الأولى تؤثر بشكل جذري في تشكيل حياتنا الشعورية حيث يقوم المحلل النفسي بافتراض دوافع لا شعورية تحرك سلوك الإنسان و توجهه دون دراية منه وهذا التأثير للمكبوتات اللاشعورية يظهر ضمن أعراض مرضية مثل الهستريا وأعراض عادية عند كل الناس مثل زلات القلم وهفوات اللسان والأحلام وغيرها من أشكال السلوك غير الواعي
2-القول بنظرية المقاومة والكبت:
إن التحليل النفيسي إذ يكشف عما هو لا شعوري ويجعله موضع فهم تمهيدا لمجاوزة أثره فإنه لا يمكنه بصورة نهائية وقاطعة منع تشكل رغبات أو ميول أو دوافع لا شعورية جديدة وعملية الكبت التي تنقل الرغبة من الشعور إلى اللاشعور ليست عملية اختيارية بل ضرورة وظيفية للحياة النفسية حسب ما تطلعنا عليه معطيات التحليل النفسي إذ بفضلها تتمكن الأنا من التوفيق بين رغبات الإنسان الداخلية و الواقع بحيث لا يظهر منها إلا ما يتلاءم مع هذا الواقع وتعمل على كبت ما دون ذلك ومنه يعرف الكبت بأنه عملية وظيفية حتمية تنقل الرغبة من الشعور إلى اللاشعور بتأثير من الأنا والأنا الأعلى
مستويات الجهاز النفسي عند فرويد
-الهو: وهو مستودع الطاقات الغريزية ومجموع الدوافع الغريزية الفطرية في الإنسان الوثيقة الصلة بالناحية الجسمية البيولوجية والمتحررة كليا من القواعد الأخلاقية وسلطة الضمير ولذلك فإن الهو يعبر عن <الواقع النفسي الحقيقي>كما يقول فرويد من ميزاتها أنها لا تراعي أحكام العقل والدين وله مظهران مظهر يتجه نحو الحياة ومظهر يتجه نحو العدوان.
1-اللبيدو: وتتجلى غريزة الحياة في كل ما يقوم به الإنسان من أعمال إيجابية بناءة قصد المحافظة على كيانه واستمرار وجوده ويعطي فرويد الغريزة الجنسية مفهوما واسعا ولم يقصرها على المتعة بين الجنسين بل هي مصدر كل حب وحنان فهي تشمل ثلاث مظاهر هي:
-الميول الجنسية التي تستهدف الإنسان والتكاثر
-مظاهر الحب والود بين الآباء والأبناء
-مظاهر اللذة الوجدانية كاللذة التي يشعرها الطفل في عملية الامتصاص
2-الغريزة العدوانية: وتمثل غريزة الموت التي تظهر في السلوك التخريبي و الهدم والعدوان على الغير(كما في الحرب) والعدوان على النفس (كما في الإنتحار)
الأنا الأعلى:ويتمثل في مجموع القيم والقواعد الأخلاقية والدينية التي يفرضها المجتمع ويكتسبها الطفل من تربيت الوالدين والتي يحل بدل عنها الضمير السامي كسلطة مراقبة داخلية تكبح غرائز الهو وتجبرها على التكيف مع القيم السامية و تتجسد هذه السلطة في صيغتين محوريتين "يجب أن" و"يجب أن لا"
الأنا:هو مبدأ الواقع يتوسط الهو والعالم الخارجي وهو الذي يقرر ما يسمح به للمطالب الغريزية من الإشباع وما لا يسمح به فهو يمثل سلطة الإرادة دوره الأساسي تحقيق التكيف والتلاؤم مع المحيط الاجتماعي من جهة وتحقيق التوازن النفسي للشخصية من جهة أخرى يقول فرويد <إن الأنا يحاول التوسط بين العالم والهو لكي يجعل الهو في اتفاق مع رغبات العالم وأن يكيف العالم عن طريق النشاط العضلي برغبات الهو>
الصراع والتوازن النفسي:
تعرف الحياة النفسية صراعا حادا بين الهو و الأنا الأعلى أي بين قوة غريزية غير مهذبة تريد الإشباع وبين الضمير الأخلاقي الذي يمثل سلطة رادعة تمنعها من الإشباع إلا ضمن قيم وأخلاق المجتمع وهنا يتدخل الأنا لفك هذا الصراع وإحداث التوازن بينهما حيث يعمل على إشباع رغبات الهو مع مراعاة قيم الأنا الأعلى في نفس الوقت وأي تكيف خاطئ يتسبب في مرض نفسي معين ويحيل الأنا الحيز غير المشبع من رغبات الهو إلى الكبت في مجال اللاشعور
اللاشعور بين النظرية العلمية والفرض الفلسفي:لقد أثارة فكرة اللاشعور العديد من التساؤلات المتجذرة من حولها منها هل يمكن اعتبار التحليل النفسي منهج علمي موضوعي فيكون القول باللاشعور نظرية علمية مكتملة أم أنه مجرد فرض وتخمين فلسفي خاص بفرويد ولا يلزم غيره؟
1-اللاشعور كنظرية علمية:
يعتقد الكثير من أنصار التحليل النفسي أن سيكولوجيا فرويد تعد نظرية علمية متزنة وهذا ما تثبته التجارب العيادية الإكلينيكية وهذا ما يبرر تبني بعض الفلاسفة المعاصرين لهذه النظرية والاعتماد عليها في تأسيس مشاريع فلسفية علمية مثلما فعل الفيلسوف الفرنسي المعاصر غاستون باشلار في تحليله للمعرفة العلمية الموضوعية حيث يأخذ باشلار فكرة اللاشعور وينقل مجال تطبيقها من الحياة النفسية للشخصية الإنسانية إلى مجال العمل العلمي للباحث فللعمل العلمي جانب مهم لا يكون موضوع وعي مثلما للحياة النفسية جانيها اللاشعوري والكبت في مجال المعرفة العلمية مثلما هو في مجال الحياة النفسية لا يعني إقصاء تام للمكبوتات وإحالتها إلى عناصر ساكنة منعدمة التأثير وإنما يكون لها تأثير مباشر في عمل الباحث دون دراية منه ويهدف التحليل النفسي للمعرفة العلمية إلى الكشف عن تلك المكبوتات التي تعيق عمل الباحث وإن هذه المكبوتات العقلية هي ما يسميه باشلار بالعائق الإبستمولوجي وهكذا يجعل باشلار من اللاشعور نظرية علمية تفسر العمل العلمي وما يدعم هذا الموقف هو تلك الثورة
التي أحدثتها أفكار فرويد في فهم الأمراض العصبية وعلاجها وساعدتها على فهم الحياة النفسية ومستوياتها المختلفة.
2-اللاشعور كفرضية فلسفية:
بالرغم من كل ما سبق فإن سيكولوجيا فرويد لم تلقى الاتفاق والإجماع لدى جميع العلماء بل ثار ضده البعض وحتى المقربين منه فجاءت أولى الاعتراضات عليه من قبل تلامذته في مدرسة التحليل النفسي ومن أشهرهم ألفريد أدلر الذي أسس مدرسة مناهضة لفرويد أسماها <علم النفس الفردي> الذي تشبث بالأنا أكثر من اللبيدو وأرجع اللاشعور إلى الشعور بالنقص والدونية جراء نقص ما في الفرد على المستويين النفسي والجسمي بينما خالف أيضا "كارل يونغ " أستاذه فرويد ووضع نظرية اللاشعور الجمعي أو النوعي وقد رفض أيضا اللاشعور بشدة من طرف المدرسة الوجودية وعلى رأسها جون بول سارتر الذي يرى أن اللاشعور ضربا من خداع الحواس
الإستناج :
يتضح لنا من كل ما سبق أن الحياة النفسية قوامها ثنائية متكاملة الشعور واللاشعور وتظل نظرية اللاشعور ضمن منهج التحليل النفسي بمثابة اكتشاف مضيئ لأحوال النفس البشرية ومعالجة
لكثير من إختلالاتها على مستوى السلوك وقرن البعض قيمته بقيمة اختراع السيارة من الناحية العلمية ومن هنا تتبدى لنا قيمة التحليل النفسي كمنهج لمعالجة الأمراض النفسية
هذا الدرس ليس مفصل
ردحذف