الوضعية المشكلة:
كيف عبرت الفلسفة المعاصرة عن قلق الإنسان اتجاه الوجود؟وبماذا دعت لتجاوز ذلك؟
1-التعبير عن قلق ومعاناة الإنسان المعاصر تجاه الوجود
-النزعة الوجودية: تعتب من أكثر الفلسفات شهرة وشعبية في القرن العشرين لأنها قامت على مبادئ جوهرها الاهتمام بالإنسان وصميم وجوده وحياته والتعبير عن قلقه وهمومه وما آل إليه من واقع يهدد كيانه ويكاد يفقده إنسانيته بفعل الاهتمام المتزايد بالمنجزات المادية للعلم ومعاملة الإنسان معاملة لا تميزه عن الأشياء المادية وإهمال شعوره وعاطفته وهذا ما حاول أن يظهره "كير كجارد" الأب الروحي للوجودية ومن بعده هيدغر و"ألبير كامي" و"جان بول سارتر":
فالإنسان عند الوجودية جسد وروح ولهذا يجب تحقيق التوازن بينهما وذلك بالكف عن الانبهار المفرط بالمنجزات المادية للعلم والحروب والاهتمام بالشعور الإنساني وعاطفته العميقة وفهم الإنسان فهما شموليا على أنه مشروع وجود يسعى دائما لإكمال مشروعه وصناعة ماهيته وإرادته وفق حريته واختياره الحر من هنا دافعت الوجودية وبشدة عن الحرية الإنسانية والفر دانية وساندة الحركات التحررية المعصرة ومن هنا فالوجودية هي فلسفة الحياةاليومية وما فيها من مشاكل فصدق عليها قول نيتشه"إن المشكلات الفلسفية الكبرى توجد في الشارع"
2الدعوة إلى تجديد الطاقة الروحية للإنسان
أ-النزعة الحدسية (النفسية):
والتي يتزعمها "هنري برغسون" وهي في جوهرها فلسفة تدعو إلى القيم الإنسانية التي أطاح بها المذهب المادي والعلم المعاصر لذلك يحاول برغسون وأتباعه الدعوة إلى الاهتمام بالإنسان وصميم روحه ووجوده لأنه كائن حي متميز بالديمومة المتدفقة باستمرار فهو يولد وينمو ويشعر ويهرم ويموت وهي خصائص لا وجود لها في المادة الجامدة ونجد برغسون يميز بين الأنا العميق و الأنا السطحي وإذا كان الثاني مقيد بعادات المجتمع والظروف الخارجية فان الأنا العميق ينبع شعوره عن الحرية المطلقة من كل الأوجه لذلك فهو جوهر الحياة الشعورية كماهية مليئة بالمشاعر والعواطف والآمال..تدرك بالحدس الشخصي المباشر ومن كل هذا فهدف النزعة الحدسية هو تجسيد شعور وإرادة الأنا العميق
ب-النزعة الشخصانية:
من أشهر مؤسسيها وروادها "ايمانويل مونيه"وتعتقد هذه الفلسفة إن المدينة المعاصرة على حافة الانهيار وتعيش أزمة حقيقية تسير بها نحو الانهيار وتدفعها نحو كارثة إنسانية وسبب ذلك هو إفلاسها الروحي والأخلاقي والجشع الاقتصادي لدرجة أصبح فيها الإنسان يعامل كمعاملة الآلة وتقدر قيمته بما ينتجه من سلع وما يحصله من مال من أجل مواجهة هذا الوضع يحاول موني تقديم رؤية جديدة تقوم على
- إعادة بناء نزعة إنسانية جديدة قادرة على أن تندمج في حضارة جديدة ومحور هذه النزعة هو الشخص ويكون هذا بتجديد قيم وأخلاق الإنسان المعاصر ومبادئ حضارته وفق أسس روحية إنسانية ترفع كرامة الإنسان وتحترم علاقاته بالآخرين وتتجاوز الظلم والفساد الاجتماعي والتميز الاقتصادي
-السعي لفهم تاريخ الإنسان ككائن عاقل حر مبدع صانع لتاريخه وأساس ذلك هو الشخص فلا بد من احترامه وتقدير شخصيته وفردا نيته
الفلسفة المعاصرة كنزعة تحليلية:
1-تحليل الوجود الإنساني من خلال الشعور وظواهره:
إن الفلسفة المعاصرة كنزعة تحليلية نجدها تأثرت كثيرا بالعلم ونتائجه وما وصل إليه من دقة ويقين في مقابل تراجع الفلسفة وركونها في مستوى الخلافات الميتافيزيقية لذلك لبد من منهج جديد للفلسفة يخرجها من دائرة الشك والخلاف إلى مجال الصدق واليقين فتصير علما وهذا بالذات ما اجتهدت في وضعه:
النزعة الظواهرية: من أبرز روادها ومؤسسيها"ادموند هوسرل" والذي يؤكد أن قصور المنهج الفلسفي هو ما حال دون بلوغ الفلسفة الدقة فالنقص ليس نابعا من طبيعتها بل من منهجها ولهذا حاول إتباع منهج جديد أسماه "بالفينومينولوجيا" الذي يهدف إلى دراسة الخبرات دراسة وصفية بقصد بلوغ ماهيتها وعللها وهو ينقسم إلى مرحلتين أساسيتين
-مرحلة التعليق أي إرجاء الحكم أو كما يقول هوسرل وضع العالم بين قوسين وهو ما يعني رفض كل المعارف الغير ثابتة بالبرهان فالمرحلة الأولى من المنهج الفينو مينولوجي هي مرحلة تحررية نقوم فيها بالتوقف عن الحكم لنحرر أنفسنا من الأحكام السابقة ونعدها لمرحلة البناء
-مرحلة التأسيس وهي ما يسميه هوسرل بمرحلة القصد حيث يظهر الشعور فيها كقصد متبادل مكون من قالب(الذات) زائد مضمون(موضوع الشعور) وهكذا فان كل شعور هو شعور بشيء ما فالشعور يقصد شيئا
والقصد هو الشعور الفعال الذي يصنع موضوعه في الإدراك وهكذا فان فهم حقائق الأشياء بطريقة برهانية بعيدة عن الشك يقتضي تناول الظواهر كما تبدو للشعور مباشرة كوحدة كلية لا تتجزأ تتحد فيها الذات والموضوع معا بطريقة قصدية واعية أي أن الظاهرة موضوع المعرفة عي في الوقت نفسه المعرفة بهذا الموضوع كفعل نفسي بمعنى أن الموضوع يقدم نفسه للذات (شعور) كمعرفة تعرف والذات تضفي عليه وعيا وقصدا يعبر عن معرفته
2- تحليل الوجود الإنساني من خلال الفكر ولغته
وقد مثلت هذا الاتجاه المدرسة الوضعية المنطقية( وهم فلاسفة حلقة فينا): وعلى رأسهم "برتراند راسل" "رايشنباخ" "فتغنشتاين"
حيث نجد هذه المدرسة تحكم بان أصل المشكل الفسلفي هو مشكل لغة حيث أن سبب كل الخلافات الفلسفية تعود إلى اللغة التي يعبر بها الفيلسوف عن فلسفته ولهذا عمدت هذه المدرسة إلى تحليل اللغة العلمية والفلسفية وهي تشترط أن يكون لكل جملة أو قضية منطقية معنى مفهوم ودلالة حسية تمكن من الحكم علياه بالصدق أو الكذب فقضية"السكر يذوب في الماء" مثلا كلام مفهوم لأنه يمكن التحقق منه تجريبا بالصدق أو الكذب فيستطيع الإنسان أن يعمد إلى قطعة من السكر وإناء فيه ماء ثم يمزجهما فيتحقق بعد التجربة من تلك القضية أما قولنا مثلا"زوايا الإنسان تساوي قائمتين" فهذا كلام فارغ لا معنى له ولا يمكن وصفه بالصدق أو الكذب وكذلك القضايا الميتافيزيقية التي سببت التناقض والخلافات الفلسفية فكلها حسب المذهب الوضعي مناقشات عقيمة ولغو لا يجدي فهي بحكم تعريفها تتحدث عما ليس في الطبيعة بل عما يقع ما ورائها ومن هنا كانت العبارات الميتافيزيقية كلها لا تتوفر فيها شرط القضية وهو إمكان أن يوصف الكلام بالصدق أو الكذب وبالتالي فهي كلام فارغ ومن لغوى القول وبهذا رفضت الوضعية المنطقية الميتافيزيقا واكتفت بتحليل اللغة العلمية لأنها لغة حسية تعبر عما هو موجودة في العالم الطبيعي الحسي ومنه يمكن الحكم عليه بالصدق أو الكذب
كيف مارست الفلسفة المعاصرة القطيعة مع الفكر الذاتي الميتافيزيقي؟ وما هي البدائل التي أخذت بها؟
إن الدارس للفلسفة المعاصرة يلاحظ أن الكثير من فلا سفتها يعتبرون الفلسفة التي سبقتهم مجرد فلسفة تأملية ذاتية يجب تجاوزها بدليل عدم قدرتها على مسايرة التطورات العلمية والتقنية المتسارعة ولهذا يجب قلب النظرة الفلسفية قلبا جذريا والسعي نحو تأسيس فلسفة علمية بإمكانها مسايرة العلم ومخاطبته بلغة علمية تسترجع بها الفلسفة مكانتها وقد عبر بوضوح عن هذه العلاقة بين الفلسفة المعاصرة والتقليدية "هانز ريشباح"بقوله"لقد كان تاريخ الفلسفة التأملية النظرية قصة لأخطاء أناس وجهوا أسئلة لم يتمكنوا من الإجابة عنها" من هنا عملت الفلسفة المعاصرة على أقامت قطيعة مع الفكر الذاتي الميتافيزيقي ودعت إلى الأخذ ببدائل جديدة تتناسب مع الفكر والواقع العلمي المعاصر ومن أهم تلك البدائل:
1الأحذ بالمبادئ العلمية الجديدة:
أ-اكتشاف مبدأ النسبية والاحتمال: فقد احدث العلم في القرن العشرين ثورة جذري على المفاهيم والمبادئ العلمية الكلاسيكية ابتداء برفض مبدأ الحتمية المطلق(نفس الشروط تؤدي حتما إلى نفس النتائج) الذي يحكم الظواهر الكونية ومن ثم هدم الفيزياء النويتينة الكلاسيكية التي تقوم على مبدأ الحتمية وتم نقل الواقع الفيزيائي من المجال الطبيعي الحسي إلى المجال الافتراضي الرياضي وهو ما كان بمثابة إعلان عن تبدل مفاهيم أولية كان إلى وقت قريب يسود الاعتقاد بأنها ثابتة ويقينية وقد عبرت النظرية النسبية عند انشتتاين عن هذا التوجه الجديد والتي نفت وجود الزمان كواقع مستقل وصنفته كبعد رابع للمكان ثم تبعتها فيزياء الكوانتا والميكانيك التماوجي وفيزياء المصفوفات وميكانيكا ديراك وغيرها من الأبحاث العلمية التي رسخت مبدأ الاحتمال والنسبية في الدراسة العلمية ونتائجها وكل هذه الأفكار كان لها أثرها الواضح على الفلسفة المعاصرة لأنها فلسفة ذات توجه علمي تتأثر بمبادئ العلم ونتائجه
ب-الأخذ بمبدأ:أن العلم بناء جديد وليس مجرد تراكم
ومن ممثلي هذا الاتجاه غاستون باشلار من خلال قوله الشهير" إن تاريخ العلم هو تاريخ أخطاء العلم" وبتالي فالمفاهيم العلمية الجديدة تنظر إلى القديمة على أنها أخاء ومنه فلا يمكن تصنيفها كامتداد تراكمي لها بل انتقال دينانميكي (حركي) طفري لهذا فان علم كما يرى باشلار اكتشاف للجديد يلغي كليتا القديم وعليه ينبغي ان يظل التفكير نشيطا حتى على صعيد الفكر المحض حيث يقول باشلار"فالعقل مضطر إلى تأسيس نفسه من جديد كلما دعت الحاجة إلى ذلك عن طريق نفي ذاته"
2-الأخذ بمبدأ البرغماتيزم في العمل وفي فهم الوجود الإنساني :وهي النظرة الجديدة للحياة والعلاقة بالوجود التي جاءت بها الولايات المتحدة الأمريكية كقوة جديدة متزعمة للعالم وأسس لها الفلاسفة البرغماتيين بداية مع مؤسس المذهب "بيرس" ثم "جون ديوي" و"ويليام جيمس" والذين جعلوا من العقل أداة لتحصيل المنفعة والتفكير وسيلة للعمل المجدي وليس للكلام المجرد فالفكرة الصحيحة هي الفكرة الناجحة التي تحققها التجربة العملية فلا صدق لقضية إلا إذا قيست بنتائجها العملية
الخاتمة: إن الفلسفة المعاصرة بكل أبعادها نجدها قد اهتمت بالإنسان فكان هو جوهر بحثها سواء تعلق الأمر بالتعبير عن مشاكله ومعاناته أو في مجال وضع البدائل التي تمكنه من فهم ذاته وفهم الوجود والمستقبل وبكل هذا يمكننا وصفها بأنها فلسفة الحياة اليومية في مقابل الفلسفات الكلاسكية التأملية التي تتعالى عن مشاكل الإنسان وتغرق في التجريد الميتافيزيقي المتعالي وهنا تكمن قيمة الفلسفة المعاصرة وأهميتها
شكرااااا جزيلا👍👍👍👍👍👍👍
ردحذف💯👏👏👏👏👏👏👏👏
ردحذف